في وقت يشهد فيه الاقتصاد المصري تدفقًا كبيرًا من الاستثمارات الأجنبية والمشروعات الكبرى، يبرز مشهد اقتصادي يتناقض مع هذه التطورات، حيث ارتفع معدل البطالة إلى 6.7% في الربع الثالث من عام 2024. هذا الرقم لا يُعتبر مجرد إحصائية، بل هو علامة استفهام كبيرة تثير التساؤلات في الأوساط الاقتصادية والاجتماعية.. كيف لدولة تشهد نموًا في الاستثمارات والمشروعات التنموية أن تواجه ارتفاعًا في أعداد العاطلين عن العمل؟.. وهل المشكلة تكمن في هيكلية سوق العمل نفسه؟.. أم أن هناك فجوة بين ما تخلق المشروعات من فرص وما يتطلبه سوق العمل من مهارات؟
في ضوء هذه المعطيات، يطرح النقاش نفسه حول مدى فعالية السياسات الحكومية في استيعاب العمالة المحلية من خلال المشروعات الكبرى، فضلاً عن التحديات الكامنة في مجالات التعليم والتدريب المهني. هل التنمية الاقتصادية في مصر تفتقر إلى العدالة في توزيع ثمارها؟ أم أن هناك مشكلات أعمق بحاجة إلى معالجة؟
أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر مؤخرًا، ارتفاع معدل البطالة إلى 6.7% في الربع الثالث من عام 2024، بزيادة طفيفة قدرها 0.2% مقارنة بالربع الثاني من نفس العام الذي سجل معدل بطالة بلغ 6.5%.
كما أظهرت بيانات حكومية أن الربع الثاني من عام 2024 شهد انخفاضًا في معدل البطالة بنسبة 0.2% مقارنة بالربع الأول، ما يعكس التقلبات التي تشهدها سوق العمل بين التحديات والآمال الاقتصادية.
وأوضح التقرير أن حجم قوة العمل ارتفع بشكل ملحوظ ليصل إلى 32.218 مليون فرد، مقارنة بـ 31.423 مليون فرد في الربع السابق، ما يعكس زيادة بنسبة 2.5% في عدد الداخلين إلى سوق العمل، وسط حاجة ملحة لتوسيع الفرص وتحقيق استقرار اقتصادي مستدام.
يرى الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب، الخبير الاقتصادي، أن “ارتفاع معدل البطالة إلى 6.7% في الربع الثالث من عام 2024 يُعتبر زيادة طفيفة للغاية، ولا يعكس تراجعًا في الاستثمارات أو انكماشًا في الإنتاج، بل يعود إلى زيادة أعداد الوافدين الجدد إلى سوق العمل. وهذه ظاهرة طبيعية تحدث سنويًا في شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر مع تخرج دفعات جديدة من الجامعات والمدارس الفنية. سوق العمل الآن يشبه سفينة كبيرة تتسع لركاب جدد في موسم محدد، لذا فإن هذا الرقم لا يعكس أزمة اقتصادية هيكلية، بل هو مؤقت ومرتبط بديناميكية السوق السنوية”.
وفي تصريحات خاصة لمنصة “MENA“، تابع الدكتور عبدالمطلب قائلاً: “رغم ذلك، فإن هذا الارتفاع يُثير تساؤلات جوهرية حول خططنا لزيادة فرص العمل وتحسين جودة الحياة. نحن لا نتحدث عن رقم مجرد، بل عن أشخاص وأحلام، عن أسر تنتظر الأمل ومجتمع يسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية. ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا التحرك نحو تنفيذ خطط تنموية شاملة ترتكز على زيادة الرقعة الزراعية ورفع إنتاجية المحاصيل، إلى جانب النهوض بقطاع الصناعة من خلال إنشاء مناطق صناعية متخصصة تتوزع بذكاء على المحافظات، خصوصًا في المناطق الصحراوية التي تحمل إمكانات هائلة للتنمية”.
وأضاف: “توطين الصناعة لا يعني فقط بناء مصانع جديدة، بل يعني أيضًا بناء مجتمعات اقتصادية قادرة على دعم نفسها وتحقيق التوازن بين معدلات التوظيف وتحسين مستوى المعيشة. التنمية الحقيقية ليست أرقامًا على الورق، بل نبض في حياة الناس وأمل يمتد عبر الأجيال”.
واختتم حديثه قائلاً: “إذا أردنا مستقبلًا أفضل، فلا بد أن نحوّل التحديات إلى فرص، ونُسخّر الإمكانات لبناء اقتصاد يلبي طموحاتنا ويُحلق بأحلامنا بعيدًا عن حدود المألوف”.
يتفق الدكتور بلال شعيب، الخبير الاقتصادي، مع الرأي القائل إن ارتفاع معدلات البطالة في الربع الثالث من عام 2024 لا يمثل أزمة اقتصادية حقيقية، حيث أوضح: “لقد حققت مصر تقدمًا كبيرًا في خفض معدلات البطالة مقارنة بما كانت عليه قبل عشر سنوات. ففي عام 2013، تجاوزت البطالة حاجز 13%، أما اليوم، فالزيادة الطفيفة الأخيرة في المعدلات ليست سوى مؤشر مؤقت لا يعكس الواقع على نحو شامل. أعتقد أن البطالة في مصر تتجه نحو الانخفاض، خاصة مع التوسع في الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمشروعات القومية الكبرى، مثل مشروع رأس الحكمة، الذي يستهدف استيعاب أعداد كبيرة من العمالة”.
وأشار الدكتور شعيب إلى أن “الزيادة الطفيفة في معدلات البطالة تعود إلى عدة عوامل، بعضها مرتبط بالإصلاحات الهيكلية في المالية العامة، والتي تضمنت زيادة أسعار المحروقات. هذا الأمر أثّر على معدلات التضخم وقوّض القوة الشرائية للمواطنين، ما خلق حالة من الركود الاقتصادي المحدود. ورغم أن هذه الظاهرة أقل حدة من سابقاتها، إلا أنها تتأثر بالأزمات الاقتصادية العالمية والتوترات الإقليمية”.
في تصريحاته لمنصة “MENA“، أوضح الدكتور شعيب أن “العوامل المؤدية إلى البطالة تنقسم بين داخلية وخارجية. على الصعيد الخارجي، تؤثر التوترات العالمية على حركة التجارة الدولية، ما ينعكس على إيرادات قناة السويس، إلى جانب ارتفاع التضخم والركود الاقتصادي عالميًا، وهو ما يلقي بظلاله على الاقتصاد المصري. أما داخليًا، فقد أسفرت جهود الحكومة لضبط الأداء المالي، خاصة في القطاع المصرفي، عن تأثيرات غير مباشرة على بعض القطاعات الاقتصادية”.
وعن الحلول المقترحة، أكد الدكتور شعيب أن “الحكومة اتخذت خطوات قصيرة الأجل لتخفيف الأعباء الاقتصادية على المواطنين، مثل تثبيت أسعار المحروقات لمدة ستة أشهر، وتفعيل مبادرات مثل كلنا واحد والسوق اليوم الواحد لتخفيف وطأة الأزمة. وعلى المدى الطويل، تركز الدولة على الاستثمار في المشروعات الأجنبية المباشرة، وتعميق الصناعة الوطنية لتقليل فاتورة الاستيراد التي تبلغ حوالي 90 مليار دولار. كما تسعى الدولة لزيادة الصادرات ورفع عدد العاملين في قطاع الصناعة من 3.5 مليون إلى 7 ملايين عامل، مع توسيع قطاع السياحة كأحد ركائز التنمية الاقتصادية”.
واختتم الدكتور شعيب حديثه قائلًا: “التحديات قائمة، لكن الرؤية واضحة. تمتلك مصر المقومات اللازمة لتجاوز الأزمات وتحقيق نمو اقتصادي مستدام يُمكّنها من خلق فرص عمل جديدة وتحسين جودة الحياة للمواطنين”.
أرجع إيهاب منصور، وكيل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب المصري، الزيادة الطفيفة في معدلات البطالة خلال الربع الثالث من عام 2024 إلى مرونة المواطن المصري وقدرته على التكيف مع التحديات الاقتصادية. وأوضح أن هذه المرونة تتجلى في استعداد المواطنين لقبول وظائف بعيدة عن تخصصاتهم الأكاديمية، مما يساهم في الحفاظ على استقرار سوق العمل وتوفير مصدر دخل يساعدهم في مواجهة متطلبات الحياة.
وفي تصريحات خاصة لمنصة “MENA“، شدد منصور على أن هذه الظاهرة تعكس الحاجة المُلِحّة لتطوير منظومة التعليم في مصر بما يتماشى مع متطلبات السوق الحديثة. وأكد أن الحل يكمن في تأسيس جامعات وكليات تقدم تخصصات جديدة تلبي احتياجات سوق العمل، إلى جانب إعادة هيكلة نظام التنسيق الجامعي لتوجيه الشباب نحو هذه التخصصات الواعدة.
وأشار منصور إلى أهمية مراجعة آليات قبول الطلاب بالكليات وربطها باحتياجات سوق العمل الفعلية. واستدل على ذلك بقبول 47 ألف طالب بكليات الهندسة هذا العام، بينما لا يحتاج السوق سوى 25 ألف مهندس، وهو ما يعكس وجود فجوة واضحة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق. وأكد أن تحقيق التوازن في أعداد الطلاب المقبولين والتخصصات المطلوبة سيُسهم بشكل كبير في تقليص معدلات البطالة وتعزيز جودة التعليم.
وأضاف منصور أن المشروعات القومية الكبرى تُوفر فرص عمل كبيرة، لكنها لا تزال غير كافية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين سنويًا. ودعا إلى تنشيط دور القطاع الخاص ليصبح المحرك الأساسي لتوفير فرص العمل، خاصة في ظل خطط الحكومة لتوسيع مساهمته في الاقتصاد من 30% حاليًا إلى 65% خلال ثلاث سنوات.
توقع منصور أن تشهد معدلات البطالة ارتفاعًا في الربع الأخير من العام الجاري نتيجة استمرار الضغوط الاقتصادية العالمية، مثل ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب زيادة أسعار السلع الأساسية وأسعار الفائدة وسعر الصرف. ودعا الحكومة إلى اتخاذ إجراءات استباقية لتحفيز الاستثمارات الأجنبية، بما يعزز قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل جديدة وتخفيف الأعباء الاقتصادية على المواطنين.
وأكد البرلماني المصري أن استقرار التشريعات الاقتصادية وطمأنة المستثمرين هما مفتاح جذب الاستثمارات، مشيرًا إلى أن قرارات مثل اعتماد نظام الاعتمادات المستندية أربكت عمليات الاستيراد، خاصة للمشروعات الصغيرة، التي تُعد أكبر قطاع مشغل للعمالة. ودعا إلى وضع سياسات أكثر مرونة لدعم هذا القطاع الحيوي، بما يضمن تحقيق توازن بين احتياجات السوق ودعم التنمية المستدامة.
يحكي أحمد أبو طالب، خريج كلية الإعلام بجامعة الأزهر، عن رحلته في البحث عن الذات والعمل، وهي رحلة مليئة بالتحديات والأحلام المتبخرة، قائلًا في تصريح خاص لمنصة “MENA“: “كنت أحلم، كأي شاب، بالتحاقي بكلية الإعلام وتحقيق طموحي في مجال الصحافة والإعلام. تحقق هذا الحلم في عام 2016، عندما حصلت على 80% في الثانوية الأزهرية بالقسم الأدبي. خلال سنوات دراستي، كنت مليئًا بالطموح، مؤمنًا بأنني بمجرد التخرج، سأبدأ مسيرتي في المجال الإعلامي الذي أحببته وسعيت لتطوير نفسي فيه من خلال العديد من الدورات في الصحافة والإذاعة والمونتاج”.
لكن الواقع لم يكن كما تخيل أحمد، فقد اصطدم بسوق عمل يفرض شروطًا تتجاوز إمكانيات الخريجين الجدد. يقول أحمد: “أثناء دراستي، كنت أعمل في وظائف بعيدة تمامًا عن مجال الإعلام لتخفيف العبء المالي عن أسرتي. كنت أظن أن اجتهادي واستثماري في الكورسات كافيان للحصول على وظيفة بعد التخرج. لكن بعد تخرجي في 2020، وسط أزمة كورونا، وجدت أن سوق العمل يتطلب خبرات لا يمتلكها الخريجون الجدد، خاصة خريجي الأزهر”.
يحكي أحمد عن محاولاته المستمرة للحصول على فرصة تدريب أو عمل: “طرقت أبواب التدريب في الصحف والقنوات، لكن الردود كانت محبطة. في البداية، كان الرفض لأنني لم أتخرج بعد، وبعد التخرج، أصبح العائق هو قلة الخبرة. دفعتني هذه الإحباطات للبحث عن بدائل”.
يقول أحمد: “بدأت العمل كمحاسب في مخزن للحديد والأسمنت، ثم انتقلت إلى محل أدوات منزلية في أبو النمرس بالجيزة. ورغم أنني أعمل الآن في مجال مستقر والحمد لله، إلا أنني لست راضيًا. أفكر في أن التجارة أو السفر هما الحل الأنسب للبطالة، خاصة في ظل غياب فرص عمل تتناسب مع التخصصات الدراسية”.
ويتابع: “أدركت أن الوظيفة وحدها لا تكفي لتحقيق الاستقرار المالي أو بناء حياة كريمة. نحن الشباب بحاجة إلى استثمار حقيقي في طاقاتنا، إلى منظومة توفر لنا فرصة لتحقيق أحلامنا دون أن يكون التخصص الدراسي قيدًا”.
يختم أحمد حديثه: “ربما أضعت سنوات في البحث عن عمل في مجال الإعلام، لكنني تعلمت درسًا مهمًا: النجاح ليس مرتبطًا بمجال الدراسة فقط، بل بالقدرة على التكيف مع الظروف واختيار الطريق الذي يضمن لك حياة كريمة ومستقبلًا أفضل”.
في ختام هذا المشهد المتشابك بين الأرقام الجامدة والقصص الحية، يتضح أن البطالة ليست مجرد رقم يظهر في التقارير الفصلية، بل هي مرآة تعكس سياسات، أحلام، ومعاناة ملايين الشباب. يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن لمصر تجاوز هذا التناقض الاقتصادي؟
قد يكون الحل في إعادة تعريف التنمية، بحيث لا تقتصر على تدفق الاستثمارات الكبرى فقط، بل تمتد إلى بناء أجيال قادرة على مواكبة سوق العمل ومتطلباته المتغيرة، واستثمار حقيقي في الإنسان الذي يشكل نواة أي تقدم اقتصادي.
في ظل التحديات المتزايدة محليًا وعالميًا، تظل الفرصة قائمة لبناء مستقبل أكثر عدالة واستدامة. فالأزمات الاقتصادية ليست نهاية الطريق، بل محطات تدفع نحو الإبداع والتخطيط لتحويل الصعوبات إلى فرص. يبقى الأمل معقودًا على جهود متكاملة تسهم في عبور مصر وشبابها إلى مستقبل مليء بالإنجازات والطموحات المحققة.
اقرأ أيضًا:
إدمان القمار الإلكتروني والجريمة
إنقاذ الصناعة المصرية.. مبادرة جديدة لإنهاء تعثر ١٢ ألف مصنع متوقف
تعديلات الإيجار القديم.. تحدث ارتباك في سوق العقارات
إدمان الانترنت هل هو سبب ارتفاع معدلات الطلاق في مصر؟
حفلات التخرج الجامعية.. ونائبة برلمانية تطالب بوضع حد للتجاوزات