السلع التموينية: الحكومة تفحت في الصخر لتوفير العملة الصعبة ولا تستسهل الاستيراد
خبراء: الزراعة في مصر تواجه تحديات كبيرة كالتغيرات المناخية وارتفاع تكاليف الإنتاج.. وتشجيع الفلاح يقربنا من تحقيق الحلم
تعاقدت مصر، عبر وزارة التموين والتجارة الداخلية، مؤخرًا، على شراء 290 ألف طن من القمح المستورد، ما أثار العديد من التساؤلات في الشارع المصري.. مثل: لماذا لا تُزرع مصر كميات كافية من القمح محليًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذا المحصول الهام في وقت تحتاج فيه البلاد إلى توفير العملة الصعبة؟ وهل شراء القمح من الخارج أقل تكلفة من زراعته محليًا؟ ولماذا يُستورد القمح من دول بعينها؟ هذه التساؤلات وغيرها نعرض إجاباتها في السطور التالية عبر آراء مسؤولين وخبراء تحدثوا لمنصة “MENA“:
صرّح حسام الجراحي، نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للسلع التموينية بوزارة التموين المصرية، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن شراء الحبوب، لمنصة “MENA” بأن الكمية المستوردة من القمح، التي تبلغ 290 ألف طن، جاءت من أوكرانيا وبلغاريا ورومانيا. وأوضح أن السبب وراء الاستيراد الكبير من روسيا وأوكرانيا يعود إلى كون روسيا أكبر مصدّر للقمح في العالم، تليها أوكرانيا، إذ تشتهر منطقة البحر الأسود بإنتاج وتصدير القمح.
وفيما يتعلق بالاستمرار في استيراد القمح، أضاف الجراحي أن احتياجات مصر السنوية من القمح تتراوح بين 19 إلى 20 مليون طن، وتلتزم هيئة السلع التموينية بتوفير الكميات المطلوبة لإنتاج الخبز التمويني فقط.
وأشار إلى أنه في العام الماضي تم إنتاج 100 مليار رغيف خبز، سواء من القمح المنتج محليًا أو المستورد، حيث يتم استخدام ما بين 8 إلى 9 ملايين طن سنويًا لهذا الغرض. كما ذكر أن الهيئة تسلمت في العام المالي الماضي 3 ملايين و429 ألف طن فقط من القمح المحلي من إجمالي مستهدف بلغ 4.4 مليون طن، ما دفعها لاستكمال الكميات المتبقية عن طريق الاستيراد.
وعن جهود الدولة في زراعة القمح محليًا والتوسع فيه، أوضح نائب رئيس الهيئة العامة للسلع التموينية أن الحكومة تعمل على زيادة المساحات المزروعة بالقمح، ودعم المزارعين عبر زيادة سعر التوريد، إذ تم رفعه هذا العام من 2000 إلى 2200 جنيه لتشجيع الفلاحين على توريد القمح المحلي في موعده الذي يبدأ منتصف شهر أبريل من كل عام.
وأكد الجراحي أن روسيا خفضت سعر صادراتها من القمح من 265 إلى 262 دولارًا للطن، مما يُعَدّ ميزة لمصر. وأضاف أن الاحتياطي الاستراتيجي الحالي من القمح يكفي لمدة 4.6 أشهر، وكان قبل حوالي شهرين ونصف قد وصل إلى 7 أشهر، وهو من أكبر الأرصدة التي حققتها مصر في تاريخها.
وأشار إلى أن مصر تتمتع باحتياطي آمن ومستقر من القمح والزيت والسكر، حيث يصل رصيد الزيت إلى 7 أشهر، والسكر إلى 14 شهرًا.
وحول تنظيم مناقصات جديدة للقمح أو الزيت، أفاد الجراحي بأن ذلك يعتمد على المتطلبات والاحتياجات، وفي الوقت الحالي هناك استقرار في السوق.
كما أوضح أن الهيئة تستغل الفرص السعرية المتاحة عالميًا؛ فعند توافر هذه الفرص، يتم التقدم بمناقصة أو الاتفاق بالأمر المباشر، مؤكدًا أهمية تنويع مصادر التوريد وطرق التمويل، سواء عبر المؤسسة الإسلامية أو وزارة المالية من خلال الموازنة العامة.
وبخصوص تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح في مصر وتقليل فاتورة الاستيراد التي تثقل كاهل الاقتصاد، قال الجراحي: “هناك تعليمات من الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي لتحقيق هذا الهدف، وكل المسؤولين يعملون جاهدين للوصول إلى تلك الخطوة لتقليل فاتورة الاستيراد”.
وأضاف: “نحن لا نستسهل الاستيراد، بل ندفع أسعارًا أعلى للقمح المحلي لتشجيع المزارعين على الزراعة، إلا أن توفير الأمن الغذائي يبقى ضرورة لتفادي أي نقص في المخزون”.
وفيما يتعلق بتنويع مصادر استيراد القمح، أكد الجراحي أن مصر تتبع سياسة متوازنة ولديها علاقات متميزة مع دول متعددة. وأوضح أن القضية ليست فقط في زيادة عدد المناشئ، بل الأهم هو الجودة والتكلفة، مشيرًا إلى أن مصر تستورد حاليًا من 22 منشأً وتسعى إلى زيادتها.
أما فيما يخص القمح الفرنسي وما أُشيع حول عدم مطابقته للمواصفات، نفى الجراحي ذلك مؤكدًا أن الهيئة لا تستورد أي شحنة غير مطابقة للمواصفات.
وأضاف: “نتبع معايير صارمة في الاستيراد، ولو خالف المورد الشروط، يتم إلغاء خطاب الضمان الخاص به، ولا ندفع ثمن الشحنة إلا بعد دخول القمح إلى الصوامع وإنتاج الخبز وبيعه للمواطن، مع التسهيلات الممنوحة التي تصل إلى 9 أشهر.”
اختتم “الجراحي” حديثه، ونضيف هنا أن بيانات وزارة التموين والتجارة الداخلية، بقيادة الوزير الدكتور شريف فاروق، تشير إلى أن الوزارة تشرف على إنتاج كميات تتراوح بين 250 إلى 270 مليون رغيف خبز مدعم يوميًا، يُعرف في مصر بـ”رغيف العيش”، ويُباع عبر البطاقة التموينية للمواطنين بسعر 20 قرشًا، على الرغم من أن التكلفة الفعلية للرغيف تقارب 135 قرشًا. وتتحمل هيئة السلع التموينية التابعة للوزارة فارق التكلفة، ليبقى السعر ثابتًا للمواطن عند 20 قرشًا.
وتسعى الوزارة أيضًا لاستكمال برنامج توطين صناعة الصوامع في مصر، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، عبر تأسيس شركة مصرية بالتعاون مع القطاع الخاص لإنتاج مكونات صوامع تخزين القمح بالكامل محليًا، وذلك لتوفير العملة الصعبة وتعزيز الاستقلالية في هذا القطاع الاستراتيجي.
تستورد مصر القمح عبر مصدرين رئيسيين؛ الأول: هيئة السلع التموينية “الحكومية” لتأمين القمح المستخدم في إنتاج الخبز المدعم، والثاني: شركات القطاع الخاص لتلبية احتياجات السوق.
وتبعًا لوثيقة “التوجهات الإستراتيجية للاقتصاد المصري للفترة الرئاسية الجديدة 2024-2030″، التي أصدرها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، وحصلت منصة “MENA” على نسخة منها، تحتاج مصر في العام الجاري 2024 نحو 7.7 مليون طن من القمح، لتوفير 93.5 مليار رغيف خبز سنويًا.
وفي مايو الماضي، وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكومة إلى مواصلة تعزيز الاستفادة من النجاحات التي حققها مشروع “مستقبل مصر” في الدلتا الجديدة. ويهدف هذا المشروع إلى تطوير القطاع الزراعي في مصر، وزيادة الرقعة الزراعية، بما يضمن الأمن الغذائي للبلاد، ويحميها من التقلبات العالمية. ويأتي ذلك ضمن حرص الدولة على توفير منتجات زراعية عالية الجودة للأسواق المحلية بأسعار مناسبة، إلى جانب زيادة فرص التصدير للخارج.
أوضح الدكتور السيد خضر، الخبير الاقتصادي ومدير مركز الغد للدراسات الاستراتيجية، لمنصة “MENA” أن الحرب الروسية الأوكرانية أثرت على الأوضاع الاقتصادية في روسيا ورفعت أسعار توريد القمح، ما دفع مصر للبحث عن بدائل لتعويض نقص الواردات من روسيا وأوكرانيا.
وأكد أن مصر تستمر في استيراد القمح لأسباب عدة، منها تلبية الطلب المحلي، حيث تعتبر مصر من أكبر مستهلكي القمح في العالم، ويعتمد الكثير من السكان على الخبز كغذاء أساسي. وبالتالي، يتطلب تلبية هذا الطلب استيراد كميات كبيرة، خاصة مع الزيادة السكانية.
كما أشار خضر إلى أن الزراعة في مصر تتأثر بالتغيرات المناخية كالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، ما يؤثر سلبًا على إنتاجية القمح المحلي.
وأضاف أن القمح المستورد غالبًا ما يتميز بجودة عالية، تناسب الاستهلاك البشري والصناعات الغذائية، وفي بعض الأحيان تكون أسعاره العالمية أقل من تكلفة الإنتاج المحلي، ما يجعل استيراده خيارًا اقتصاديًا.
وبيّن أيضًا أن استيراد القمح من مصادر متنوعة يضمن توفره على مدار العام، خاصة في ظل الأزمات أو التقلبات في الإنتاج المحلي. فالزراعة في مصر تواجه تحديات عديدة، مثل التغيرات المناخية التي تقلل من إنتاجية المحاصيل، إلى جانب ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب زيادة أسعار المدخلات الزراعية كالبذور والأسمدة والري. كل هذه الظروف تجعل الاعتماد الكلي على الإنتاج المحلي أمرًا صعبًا ومكلفًا، ما يجعل استيراد القمح خيارًا مفضلًا عندما تكون أسعار السوق العالمية مناسبة.
وواصل خضر حديثه بالإشارة إلى أن الأراضي الزراعية في مصر غير كافية لتلبية احتياجات البلاد بالكامل، وأن استغلالها بشكل فعال يتطلب استثمارات كبيرة لتحسين الإنتاجية. كما أن بعض الدول مثل روسيا ورومانيا وأوكرانيا تتمتع بعلاقات متميزة مع مصر، مما يجعلها شركاء موثوقين في تلبية احتياجات مصر من القمح.
أضاف الدكتور السيد خضر أن مصر تتجه لاستيراد القمح من روسيا ورومانيا وأوكرانيا بسبب موقعها الجغرافي وقوة إنتاجية تلك الدول، حيث تتمتع بمساحات زراعية واسعة ومناخ مناسب لإنتاج كميات كبيرة من القمح، فضلًا عن توفر الأسعار التنافسية، مما يسهل عمليات الشراء. كما أن رومانيا وأوكرانيا تنتجان قمحًا عالي الجودة يناسب احتياجات السوق المصرية.
في سياق متصل، يرى عادل محسن، الخبير الاقتصادي، أن رفع سعر توريد القمح من المزارعين سيؤدي إلى زيادة كميات القمح المنتج محليًا، وأنه كلما زاد الدعم والتحفيز للمزارعين لزراعة القمح، اقتربت مصر من تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وأضاف محسن لمنصة “MENA” أن مصر تهدف إلى توسيع المساحات المزروعة لتصل إلى 11 مليون فدان بحلول عام 2027، وزيادة نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح إلى 53%. وأوضح أن هذه الخطة تعتمد على استخدام التكنولوجيا، والحد من إهدار القمح، وتطوير منظومة الصوامع، وأنظمة الري والصرف، بما يحافظ على خصوبة التربة ويعزز من إنتاجيتها.
اقرأ أيضًا:
محاولة أوكرانية للإيقاع بين مصر وروسيا
مشاريع الاستصلاح الزراعي بين طموحات الدولة وواقع المُزارع
استيراد أكبر كمية قمح في تاريخ مصر.. خيار أم ضرورة؟