تُظهر المصالحة الأخيرة بين تركيا ومصر، التي تمثلت في توقيع اتفاقيات كبيرة، وجود إمكانيات للتعاون، لكنها تُبرز أيضًا التوترات الكامنة في القرن الإفريقي، والتي قد تعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي للمنطقة، وشهدت الأشهر العشرة الماضية حدثين مهمين في تفاعلات البلدين كما وضحهما المعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية وهما:
وهذا يُشير إلى أن تصاعد للنفوذ السياسي والعسكري المصري في الصومال إلى سيناريو جديد تشترك فيه تركيا ومصر. وبينما تبدو المصالح الاستراتيجية للبلدين متقاربة، هناك إشارات إلى احتمال تصاعد المواجهة بينهما في المستقبل.
وأشار المعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية إلى أن هناك تحسن العلاقات بين تركيا ومصر إلى تقارب استراتيجي تدريجي قائم على تقييمات عملية من جانب القيادة السياسية لكلتا الدولتين. وتأثرت عملية التطبيع التدريجي بثلاثة عوامل رئيسية:
عاملان داخليان يتعلقان بتقييمات سياسية داخل البلدين، وعامل ثالث وهو التأثر بالديناميكيات الدولية.
حيث يسعى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى تحسين العلاقات مع الغرب بشكل ملحوظ، مع الحفاظ على استقلالية تركيا الاستراتيجية في قضايا عدة، وبعد تطبيع العلاقات مع خصوم سابقين مثل الإمارات والسعودية (2020-2022)، أعادت تركيا التواصل مع دول الجوار مثل سوريا واليونان ومصر (2023-2024)، وتُعتبر أنقرة أن تحسين العلاقات الإقليمية ضروري لتعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار الداخلي.
من الجانب المصري، يُنظر إلى استعادة العلاقات مع أنقرة كخطوة تهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتعتبر القيادة المصرية تركيا شريكًا إقليميًا مهمًا في مجالات الدفاع والتجارة، مع اهتمام خاص بقطاعي الدفاع والزراعة.
وفي مجال الدفاع، سعت القاهرة إلى توسيع تعاونها الأمني، خاصة بعد أن كثفت شراكتها الدفاعية مع روسيا، لكنها أصبحت تنظر إلى المنتجات الدفاعية التركية كبديل محتمل أكثر مرونة، فمنذ عام 2023، عقد وفد مصري عدة اجتماعات مع هالوك غورغون، رئيس وكالة الصناعات الدفاعية التركية، لاستكمال اتفاقيات التوريد.
وأبدت مصر اهتمامًا كبيرًا بشراء معدات دفاعية متطورة، من تركيا.
ويُعتبر إبرام اتفاق مع أنقرة أقل إثارة للقلق سياسيًا مقارنة بالاتفاقيات مع روسيا أو الصين، حيث يواجه تحفظًا أقل من حلفاء مصر الغربيين، خاصة الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، تُعد تركيا مستثمرًا رئيسيًا في قطاعات مثل النسيج، ومواد البناء، والصناعات الزراعية، وترحب مصر بأي استثمار تركي في هذه القطاعات، خاصة في ظل الضغط المالي المتزايد الناتج عن الحرب في أوكرانيا، ما تسبب في ارتفاع أسعار السلع وتأثر الميزانية العامة.
إلى جانب العوامل الداخلية، ساهمت تطورات إقليمية في تقريب وجهات النظر بين تركيا ومصر، من أبرزها:
الأزمة الإسرائيلية مع غزة، فبعد هجوم 7 أكتوبر 2023 وما تبعه من تصعيد عسكري، كان على كل من تركيا ومصر التعامل مع الوضع بحذر. ورغم أن الرأي العام في البلدين كان متعاطفًا بقوة مع القضية الفلسطينية، إلا أن العلاقات المؤسسية طويلة الأمد مع إسرائيل، خاصة في مجالات الأمن والاستخبارات، أوجدت نوعًا من الغموض في مواقف البلدين الرسمية. وقد ترافقت الإدانات القوية للرئيسين رجب طيب أردوغان وعبد الفتاح السيسي للانتهاكات الإسرائيلية في غزة مع نوع من الجمود السياسي والدبلوماسي.
وفي محاولة لكسر هذا الجمود، دعت كل من تركيا ومصر إلى وقف إطلاق النار وتقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين، لكن تأثيرهما بدا ضعيفًا، ومن بين التداعيات الناتجة عن الصراع في غزة، كان هناك تصاعد في عدم الاستقرار في البحر الأحمر نتيجة الهجمات الحوثية على السفن التجارية، مما يهدد حرية المرور عبر الممر المائي الحيوي، وتُعد قناة السويس أحد المصادر الأساسية للدخل القومي المصري، وأي انخفاض في حركة السفن سيؤدي إلى تقليص العائدات المصرية بشكل كبير.
كذلك الاتفاق الإثيوبي مع “أرض الصومال”، حيث أثار توقيع مذكرة تفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال قلقًا مشتركًا لدى أنقرة والقاهرة، لكن لأسباب مختلفة، فتركيا تخشى من أن يؤدي الاتفاق إلى اعتراف باستقلال “أرض الصومال”، وهو ما يُهدد وحدة الأراضي الصومالية التي كانت أنقرة من أبرز داعميها، ويأتي هذا الموقف مدفوعًا باعتبارات سياسية داخلية تركية، إذ ترى أن أي دعم للحركات الانفصالية قد يُشجع الحركات الكردية داخل تركيا.
أما مصر، تخشى من أن يمنح الاتفاق إثيوبيا منفذًا إلى البحر الأحمر، مما يعزز نفوذها بعد اكتمال مشروع سد النهضة، ويزيد من قدرتها على التأثير على مصر من خلال التحكم في تدفقات المياه وبيع الطاقة لدول المنطقة.
مع تصاعد التوترات بين إثيوبيا والصومال، طلبت مقديشو دعمًا دبلوماسيًا وعسكريًا، ورأت مصر في ذلك فرصة لتعزيز وجودها في المنطقة، وقدمت القاهرة دعمًا دبلوماسيًا سريعًا للصومال، بينما وقّعت تركيا اتفاقية تعاون دفاعي مع الصومال، لكنها حرصت على الحفاظ على توازن حساس في علاقاتها مع إثيوبيا.
ورغم التحالف الظاهري، ظهرت خلافات بعد قرار مصر زيادة وجودها العسكري في الصومال، حيث أرسلت أول دفعة عسكرية مع خطط لزيادة القوات إلى عشرة آلاف جندي في الأشهر المقبلة.
وأوضح المعهد أن هذا التحرك أثار مخاوف لدى تركيا التي بدأت تُبدي تحفظاتها على التصعيد المصري، حيث يرى بعض المسؤولين الأتراك أن الوجود العسكري المصري يُعيق محاولات الوساطة بين إثيوبيا والصومال ويُهدد استقرار المنطقة سياسيًا، مما قد ينعكس سلبًا على المصالح التركية.
وأوضح المعهد أنه رغم الاتجاه نحو التطبيع، ما زالت هناك ملفات خلافية جوهرية، لا سيما في القضايا المتعلقة بليبيا وشرق المتوسط، حيث تبقى مواقف البلدين متباعدة. وفي البحر الأحمر، ورغم دعمهما المشترك للصومال، ظهرت خلافات واضحة مع قرار مصر زيادة وجودها العسكري هناك، مما أدى إلى تعثر المفاوضات التي رعتها تركيا بين الصومال وإثيوبيا بشأن ميناء بربرة.
أشار المعهد إلى أن مستقبل العلاقات بين البلدين تعتمد التطورات المستقبلية وعوامل متعددة، أبرزها: السياسات الأمريكية الجديدة، لا سيما في حال عودة إدارة تُشبه سياسات ترامب، والوضع في أرض الصومال مع تشكيل حكومة جديدة.، كذلك التوترات الداخلية الصومالية بين الحكومة المركزية والولايات الفيدرالية مثل جوبالاند.
تشير هذه العوامل مجتمعة إلى احتمال تصاعد المنافسة بين البلدين، وعودة ديناميكيات التنافس الإقليمي بقوة.
وختم المعهد بالقول “تسلط التحولات في العلاقات التركية-المصرية الضوء على تعقيد السياسة الإقليمية في القرن الإفريقي، وبينما يسعى الطرفان لتحقيق مصالحهما وسط ضغوط خارجية، ستؤثر تفاعلاتهما ليس فقط على علاقاتهما الثنائية، بل على استقرار المنطقة بأسرها.”
ويبقى السؤال: هل سيصمد هذا التقارب أمام التحديات أم أنه سيُفضي إلى مرحلة جديدة من التوتر والمنافسة؟ الأيام المقبلة ستكشف الإجابة.
المصدر: