في الكواليس السياسية الهادئة، ووسط ما يبدو على السطح أنه مجرد تكهنات أو “تسريبات”، تظهر ملامح معركة ناعمة تخوضها السعودية من أجل إعادة ترتيب قواعد اللعبة داخل النظام العربي الرسمي. ففي الوقت الذي تقترب فيه ولاية أحمد أبو الغيط من نهايتها، تفتح بعض العواصم الخليجية ملفًا لم يُفتح منذ عقود: مقر جامعة الدول العربية ومنصب أمينها العام.
منذ تأسيسها عام 1945، كانت القاهرة المركز الطبيعي للجامعة. ورغم انتقال المقر مؤقتًا إلى تونس بين عامي 1979 و1990 إثر توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، فإن العودة إلى العاصمة المصرية جاءت على أساس ميثاقي واضح؛ تنص المادة العاشرة من ميثاق الجامعة بشكل قاطع على أن “القاهرة هي المقر الدائم لجامعة الدول العربية”، ولا يُعدَّل هذا البند إلا عبر موافقة ثلثي الدول الأعضاء، ما يجعله قاعدة قانونية غير قابلة للتجاوز. لذا، فإن أي محاولة لنقل المقر من القاهرة تُعد، من وجهة النظر المصرية، تجاوزًا للشرعية المؤسسية.
في هذا التوقيت تحديدًا، تفسر القاهرة الحراك السعودي كجزء من مسعى متكامل لإعادة التموضع، لا داخل الجامعة فقط، بل داخل المؤسسات السياسية الإقليمية كافة. فالمملكة، منذ إطلاق “رؤية 2030″، لم تكتفِ بإعادة هيكلة اقتصادها، بل بدأت تفرض شروطًا جديدة للتموضع في المشهد الدولي: فرضت على الشركات العالمية التي تتعامل معها نقل مقارها الإقليمية إلى الرياض، وقدّمت حوافز ضريبية واستثمارية ضخمة، ونجحت بالفعل في جذب عشرات المكاتب الكبرى إليها.
من هذا المنطلق، تنظر الرياض إلى الجامعة العربية كمنصة مهملة من حيث التأثير، لكنها قابلة للإحياء إذا ما أُعيدت صياغتها. والمقر جزء من هذه الصياغة. فمتى كانت العواصم رموزًا؟ منذ قررت القوى الكبرى أن النفوذ لا يُمارَس من الأطراف، بل من القلب. والرياض تعتبر اليوم نفسها قلبًا إقليميًا جديدًا.
ورغم أن السعودية لم تُعلن رسميًا نيتها نقل المقر أو الدفع بمرشح جديد، فإن أسماء مثل عادل الجبير ترددت في دوائر خليجية كخليفة محتمل لأبو الغيط. تصريحات إعلاميين ومثقفين سعوديين مؤخرًا ذهبت أبعد من ذلك، وتحدثت بوضوح عن أن “القاهرة لم تعد تمثل الثقل السياسي العربي كما في السابق”، وأن “مركز القيادة الحقيقي بات في الرياض”، ما فُهم على نطاق واسع كمقدمة لخطوة مؤسسية أوسع.
في المقابل، تتحرك القاهرة بحذر. لم يصدر حتى الآن أي بيان رسمي، لكن التحركات داخل أروقة البرلمان والخارجية المصرية تُظهر أن الملف على الطاولة. مصادر مطلعة أكدت أن الدوائر الدبلوماسية المصرية بدأت اتصالات مبكرة مع الجزائر والمغرب والأردن والعراق لضمان عدم تمرير أي تحرك أحادي قد يؤدي إلى تغيير المقر أو كسر العرف الدبلوماسي الذي رسخ تقليد أن يكون الأمين العام مصريًا.
وقد تزامن هذا التنسيق مع موقف رسمي متجدد عبّر عنه أحمد أبو الغيط نفسه، حين شدد خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب بالقاهرة مطلع 2025 على أن الحديث عن نقل المقر “غير وارد إطلاقًا” ما لم يتم باتفاق عربي جماعي. كذلك أشار الأمين المساعد حسام زكي في تصريحات إعلامية إلى أن “الجامعة ليست كيانًا يُدار بالمزاج السياسي، بل تستند إلى ميثاق وقواعد ملزمة”.
وتشير مصادر دبلوماسية إلى أن القاهرة فعّلت بالفعل شبكة تنسيق استباقية مع الأردن والجزائر، من خلال اجتماعات مغلقة ومشاورات مباشرة، لتثبيت الموقف القانوني والسياسي قبل بلوغ 2026. ووفق تقارير نشرتها “الشرق الأوسط”، فإن البيان الختامي لهذه المشاورات شدد على رفض تعديل وضع الجامعة أو مقرها خارج السياق التوافقي الكامل، وعلى ضرورة حماية الإرث المؤسسي الذي تمثله القاهرة بالنسبة للمنظومة العربية.
لكن القضية تتجاوز الجغرافيا. بالنسبة لمصر، فإن مقر الجامعة جزء من تركيبتها الرمزية كدولة مؤسسة للنظام العربي الرسمي. التخلي عنه يُعتبر في نظر الدبلوماسيين المصريين تراجعًا عن دور تاريخي لا تملكه أي دولة عربية أخرى. كذلك، فإن منصب الأمين العام لم يكن أبدًا مكافأة دبلوماسية، بل ترجمة لثقل سياسي طويل الأمد. حتى حين فرضت العزلة على القاهرة بعد كامب ديفيد، لم تمضِ الجامعة بعيدًا، وظلت تعود إليها بمرور الوقت.
لكن خلف هذا الصراع الرمزي، تختبئ طبقات أعمق من التنافس السياسي. فالسعودية، على مدى السنوات الماضية، لم تكتفِ بتقديم نفسها كقوة اقتصادية، بل سعت إلى فرض رؤيتها على الملفات العربية الأساسية، من سوريا إلى اليمن، إلى ملف التطبيع مع إسرائيل، إلى مواقفها من القضية الفلسطينية، حيث اتخذت مسافة من بعض الأطراف التقليدية. وفي كل ذلك، تتصرف المملكة كقوة إقليمية لا تحتاج لتفويض عربي جماعي، بل تعمل بمنطق “من يملك التأثير يملك القيادة”.
في المقابل، تعاني الجامعة من ضعف بنيوي، قراراتها غير ملزمة، ومواقفها دائمًا متأخرة عن زمن الفعل السياسي. وهذا ما يمنح السعودية فرصة طرح نفسها كمحدّث لهذه المؤسسة، أو حتى كمؤسسة لصيغة جديدة للعمل العربي المشترك، أكثر فاعلية، وربما أقل بيروقراطية، ولو من خارج الجامعة ذاتها.
الأسابيع الأخيرة كشفت عن صمت متعمد من العواصم العربية الكبرى. الجزائر لم تعلّق رسميًا، لكنها تفضل بقاء الوضع كما هو، نظرًا لحساسيتها من أي تغيّر في موازين القوى الإقليمية. المغرب تتابع بحذر، ولا تود الدخول في صراعات رمزية في توقيت إقليمي بالغ الدقة. أما الأردن والعراق، فيحتفظان بمواقف تقليدية أقرب إلى دعم الاستقرار المؤسسي من دعم التغيير الجذري.
السيناريو المرجح حتى الآن، أن يتم التفاوض على بقاء المقر في القاهرة مقابل تفاهم أوسع على توزيع المناصب داخل الجامعة، أو الدفع بمرشح مصري جديد أكثر توافقًا مع السعودية. لكن في حال أصرت الرياض على حسم الملف لمصلحتها، فقد تجد نفسها في مواجهة إجماع عربي نادر لا يفضل الدخول في أزمة شرعية مؤسساتية جديدة في وقت تمر فيه المنطقة كلها بتحولات جذرية.
في الأساس، ما يبدو خلافًا إداريًا أو اقتراحًا تنظيميًا، هو في جوهره معركة قيادة سياسية. السعودية تريد أن تضع يدها على مفاتيح المؤسسات التي طالما كانت تحت مظلة مصر. والقاهرة، رغم أزماتها الاقتصادية، لا تزال ترى نفسها مسؤولة عن “حراسة” ما تبقى من النظام العربي المشترك. وما بين اليد التي تبني واليد التي تموّل، لا يزال الطريق طويلًا أمام حسم الموقع والرمز.
في تعليق حاد على المطالبات المتداولة بنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة، أكد أحمد بهاء الدين شعبان، الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري، أن هذه الدعوات “ليست شيئًا جديدًا ولا مستغربًا”، بل هي نتيجة طبيعية وتتويج لتخلي مصر عن دورها الريادي في المنطقة، مشددًا على أن اللوم يجب أن يُوجَّه للداخل أولًا.
وأوضح شعبان في حديثه لمنصة “MENA” أن هذه المطالبات تأتي في سياق مرحلة عنوانها الرئيسي “حصار مصر وتخليها عن دورها”، وهو ما فتح الباب أمام “طموح مراكز عربية أخرى تملك مقومات مادية هائلة، دون أن تملك القدرة البشرية أو التاريخ والحضارة الكافية لقيادة المنطقة”.
وربط هذا الوضع بشكل مباشر بتصريحات رسمية صدرت عن مسؤولين كبار، مفادها أن مصر لم تعد تطمح لقيادة المنطقة، وأن الحديث عن الريادة والقوى الناعمة هو “ثقافة ستينات عفا عليها الزمن”.
وقال شعبان: “بهذا السلوك، نحن من أضعفنا دورنا وأعلنا للملأ أننا غير مؤهلين، فلا نلومن إلا أنفسنا”.
ويرى شعبان أن الأزمة أعمق من السياسة، حيث إنها نتاج “تراجع عام في المجتمع المصري” منذ اتفاقية كامب ديفيد.
وأشار إلى أن مصر، التي كانت رائدة في كل المجالات، من الثقافة والفن بوجود قامات مثل أم كلثوم وتوفيق الحكيم، إلى التعليم الذي بنى نهضة دول الخليج، قد شهدت “تحولات حادة وتراجعًا كبيرًا”.
وأضاف أن مخزون الدولة من الكفاءات “تقريبًا انتهى”، مستخدمًا تشبيهًا رياضيًا: “كنا مثل فريق كرة القدم الذي يملك دكة احتياطي قوية، أما الآن فالفريق الأساسي إذا أُصيب منه لاعب لا نجد له بديلًا”.
وفي تقييمه لجامعة الدول العربية نفسها، اعتبر شعبان أن أداءها في العقود الأخيرة “باهت ومحدود القدرة”، وأن قيمتها أصبحت “رمزية أكثر منها مادية”، مقيمًا أداءها الفعلي بـ”صفر”، بسبب تضارب مصالح الدول الأعضاء الذي شلّ حركتها منذ تأسيسها.
ورغم ذلك، أكد على الأهمية الرمزية الكبيرة لوجود مقر الجامعة وأمينها العام في القاهرة، لكنه انتقد في الوقت نفسه عدم تقديم مصر لكفاءات دبلوماسية حقيقية قادرة على تحمل مسؤولية قيادة هذه المؤسسة في السنوات الأخيرة.
واختتم شعبان حديثه بأن الحل لإعادة الدور المصري لا يكمن في “الشجار مع الآخرين”، بل في “البدء بإصلاح الداخل”، ودعا إلى ثورة حقيقية في ملفات التعليم والثقافة والإعلام، وإعادة تكوين النخبة السياسية القادرة على قيادة المسار.
وقال: “حين نمتلك هذه المقومات مجددًا، ونعود للدفاع عن ريادتنا بالعمل وليس بالكلام، وقتها سنرى من يستطيع أن يواجهنا”.
قال الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم الدراوي، في تصريح خاص لمنصة “MENA”، إن الشائعات المتداولة مؤخرًا بشأن نقل مقر جامعة الدول العربية إلى السعودية تُعد محاولات للضغط السياسي أو لإثارة الجدل، دون أن يكون لها أساس رسمي واضح. وأكد أن القاهرة تتمسك بمقر الجامعة كونه الموقع التاريخي والدائم منذ تأسيسها عام 1945، وفقًا لما ينص عليه ميثاق الجامعة في المادة العاشرة.
وأضاف الدراوي أن توقيت الحديث عن هذه المسألة يرتبط بانتهاء ولاية الأمين العام الحالي أحمد أبو الغيط في يوليو 2026، ما يعيد فتح النقاش حول كل من المنصب والمقر، وقال: “يبدو أن هناك محاولة لإعادة توزيع النفوذ في المنطقة في ظل تغيّرات متسارعة في موازين القوى الإقليمية، لكن مصر تعتبر هذه التحركات جزءًا من دبلوماسية ناعمة، تُختبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وليست مواقف رسمية صريحة من دول كبرى مثل السعودية”.
وحول ما إذا كان نقل المقر يقلل من دور مصر، أكد الدراوي أن “المقر والمنصب يُجسدان رمزية سياسية بالغة الأهمية لمصر، ومجرد التفكير في نقلهما يُضعف من مكانتها ودورها القيادي في المنطقة”. وتابع: “الجامعة ليست مؤسسة بيروقراطية فحسب، بل ركيزة أساسية من ركائز الدور المصري العربي، والتفريط فيها يعني بالضرورة تراجعًا في النفوذ السياسي والثقافي”.
وعن موقف القيادة المصرية، شدد المحلل السياسي على أن القاهرة سترفض أي محاولة لنقل المقر أو التخلي عن المنصب، إلا في حال وجود توافق عربي شامل، وتعديل رسمي في ميثاق الجامعة، وهو ما لا يُتوقع حدوثه في ظل المعطيات الحالية. وقال: “مصر ترى أن المنصب من حقها التاريخي، ليس كاحتكار، بل استنادًا إلى التوازنات العربية الراسخة منذ تأسيس الجامعة”.
وختم الدراوي تصريحه لمنصة “MENA” قائلًا: “عدم تولي دول أخرى لمنصب الأمين العام لا يرجع إلى الإقصاء، بل إلى توافق طويل الأمد على أن مصر، بثقلها السياسي وخبرتها الدبلوماسية، تمثل نقطة التقاء عربية تضمن للجامعة نوعًا من الاستقرار والشرعية الإقليمية”.
اقرأ أيضًا:
اتحاد التزكية.. هيمنة “طلاب من أجل مصر” على الانتخابات الجامعية
الإمارات تُمارس ضغوطًا على إدارة ترامب لرفض خطة الجامعة العربية حول غزة.. مسؤولون يكشفون التفاصيل
من رماد الربيع العربي إلى غبار الحروب.. هل تخلى أبو الغيط عن مسؤوليات الجامعة العربية؟