الشارع المصري

تعديلات الإيجار القديم.. تحدث ارتباك في سوق العقارات

في شقته بالدور الأرضي في أحد الشوارع الجانبية بمنطقة شبرا، يجلس “حنا عبد الملاك”، أو كما يُطلق عليه “المقدس”، غارقًا في قلقه. الأخبار المتداولة عن حكم المحكمة الذي قد يلزمه برفع قيمة الإيجار أو مغادرة شقته تثير مخاوفه. حنا، البالغ من العمر 79 عامًا، قضى أكثر من نصف قرن في هذه الشقة التي أصبحت ملاذه الوحيد.

 

حنا ليس حالة استثنائية، فهو واحد من 1.8 مليون مواطن مصري يشغلون وحدات إيجار قديم لأغراض سكنية، وفقًا لتقديرات محمد عطية الفيومي، رئيس لجنة الإسكان بمجلس النواب. هؤلاء الشاغلون يواجهون اليوم حكم المحكمة الدستورية الأخير الذي قضى بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة الأولى والمادة الثانية من القانون رقم 136 لسنة 1981 الخاص بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر. الحكم يستوجب تغيير قيمة الإيجار الشهري، مما يضع مجلس النواب أمام مسؤولية تعديل القانون قبل نهاية الدورة التشريعية الحالية.

 

يقول حنا بتوجس: “الملاك يطالبون برفع الإيجار في المناطق الشعبية إلى 2000 جنيه (42 دولارًا)، بينما معاشي لا يتجاوز 4700 جنيه (أقل من 100 دولار). هل يعقل أن أخصص نصف دخلي للإيجار؟ لقد دفعت مقدمًا، ما يُعرف بالخلو، مبلغًا يعادل 3 آلاف جنيه في عام 1974، وهو ما كان يُعادل حوالي 6900 دولار حينها. الآن يُطالبون بإيجار يتجاوز ما يدفعه سكان الإيجار الجديد في نفس المنطقة، فقط لأن المالك قرر ذلك دون معايير واضحة.”

 

بحسب العقد الموقع بين حنا وصاحب العقار الراحل منذ عقدين، قيمة الإيجار التي يدفعها حنا لا تتجاوز 3 جنيهات شهريًا. بعد وفاة المالك، طلب أبناؤه من حنا إخلاء الشقة، لكنه رفض. بدلاً من ذلك، عرض رفع قيمة الإيجار إلى 100 جنيه، لكنهم رفضوا العرض. للحفاظ على موقفه القانوني، بدأ حنا بإيداع الإيجار شهريًا في المحكمة. ومنذ عامين، عرض زيادة الإيجار إلى 500 جنيه، إلا أن الورثة رفضوا مجددًا.

 

يقول حنا: “لست ضد رفع القيمة الإيجارية، لكن ينبغي أن تُراعى عدة أمور: أولاً، أنني دفعت خلوًا كان يُعتبر ثروة في حينه. ثانيًا، يجب مراعاة البُعد الاجتماعي، خاصة أنني لا أملك ورثة يطالبون بامتداد العقد بعدي.”

 

تتجه الأنظار الآن إلى البرلمان المصري الذي يحمل على عاتقه مسؤولية تحقيق توازن عادل بين حقوق الملاك وأوضاع المستأجرين، وسط مشاعر مختلطة من القلق والترقب بين الطرفين.

 

وتُعد أزمة الإيجار القديم واحدة من أبرز القضايا المزمنة في السوق العقاري المصري. فبينما تواجه البلاد ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الإيجارات، يعاني ملاك وحدات الإيجار القديم، التي تُقدر بنحو مليوني وحدة، من تدني القيمة الإيجارية لأملاكهم. هذه الأزمة تشهد صراعًا دائمًا بين طرفين: المستأجرون الذين يطالبون بمراعاة البُعد الاجتماعي والمبالغ المدفوعة مقدمًا عند توقيع العقود، والملاك الذين يشعرون بأن حقوقهم تم التعدي عليها.

 

الإيجار القديم في الأعمال الفنية

 

وتناولت هذه الأزمة العديد من الأعمال الفنية، مثل مسلسل إيجار قديم وسلسلة نصيبي وقسمتي، التي ألقت الضوء على جوانب مختلفة من القضية وأبرزت التوتر بين الأطراف المتنازعة.

 

“أنا صاحب عمارة في أفضل أحياء الجيزة، لكن دخلي محدود لأن العمارة كلها تُؤجر بـ50 جنيهًا فقط”، بهذه الكلمات بدأ عماد السيد، مالك أحد العقارات في حي العجوزة، حديثه عن معاناته مع قانون الإيجار القديم.

 

يقول عماد: “ورثت العقار عن والدي، الذي ورثه بدوره عن جدي. للأسف، لم يستفد والدي من العقار، وأنا كذلك، لأن جدي أجّر وحداته في خمسينيات القرن الماضي بقيمة 5 جنيهات فقط للشقة. المشكلة أن القانون يسمح بتوريث عقود الإيجار، فأصبح أحفاد المستأجرين الأصليين هم من يشغلون الشقق الآن، دون أن أستطيع إخراج أحد منهم أو حتى رفع الإيجار. والأسوأ أن إحدى الشقق فارغة، لكن المستأجر يرفض إخلاءها.”

 

ويضيف عماد: “عندما تزوجت، اضطررت لتأجير شقة في حي إمبابة لأنني لم أستطع تحمل تكلفة استئجار وحدة في نفس الحي الذي أملك فيه العقار. من غير العدل أن أرث عقارًا تبلغ قيمته ملايين الجنيهات ولا أستفيد منه بأي شكل، بل وأتحمل تكاليف صيانته وترميمه أيضًا.”

 

معاناة ملاك العقارات القديمة

 

تُلخص قصة عماد معاناة شريحة واسعة من ملاك العقارات القديمة، حيث يصبح العقار الذي يُفترض أن يكون مصدرًا للدخل عبئًا بسبب قيود قانونية تحكم العلاقة بين المالك والمستأجر. ومع استمرار الجدل، يبقى السؤال: هل سيتمكن البرلمان من تحقيق توازن عادل يرضي جميع الأطراف؟

 

توجيه رئاسي

 

لم يغب ملف الإيجار القديم عن اهتمامات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أكد في أكتوبر 2023 ضرورة إيجاد قانون يعالج مشكلة العقارات الخاضعة لنظام الإيجار القديم. وصرّح بأن هناك نحو مليوني وحدة شاغرة بقيمة إجمالية تقدّر بتريليون جنيه، داعيًا إلى تسوية عادلة تحفظ حقوق المالك والمستأجر.

 

 

التوازن الغائب

 

وفي هذا السياق، صرّح شريف الجعار، رئيس اتحاد المستأجرين، لمنصة “MENA” أن حكم المحكمة الدستورية الأخير أقر بامتداد عقد الإيجار لجيل واحد فقط، وهو ما يوافق عليه المستأجرون. وأوضح أن منطوق الحكم شدد على ضرورة تحقيق توازن بين المالك والمستأجر، دون اللجوء إلى تحديد الإيجارات وفقًا للقيمة السوقية الحالية.

 

وأشار إلى أن هذا التوازن يتطلب زيادات تدريجية تُنفذ على سنوات، مع مراعاة البُعد الاجتماعي للمستأجرين.

 

وأضاف الجعار أن البرلمان سبق وحدد قيمة الإيجار للشخصيات الاعتبارية بخمس أضعاف الإيجار القديم، مع زيادة سنوية بنسبة 15%. لذلك، يرى أن أي تعديل يجب أن يكون أقل من هذا المعدل بالنسبة للأفراد الطبيعيين، خاصة أن غالبية المستأجرين ليسوا من ميسوري الحال.

 

أشار الجعار أيضًا إلى أن الملاك حصلوا على دعم من الدولة في مواد البناء مقابل تأجير عقاراتهم. بالإضافة إلى ذلك، دفع المستأجرون في الماضي مبالغ كبيرة كـ”خلو”، وهو مبلغ مقطوع يُدفع عند توقيع العقد، ما يضيف بُعدًا آخر للمعادلة.

 

وأوضح أن اتحاد المستأجرين قدم مذكرة للبرلمان تضم رؤيتهم حول آلية تنفيذ الحكم، بما يحقق التوازن بين الطرفين. وأعرب عن قلق المستأجرين من تجاهل البرلمان للبُعد الاجتماعي في التشريعات القادمة.

 

تاريخ الإيجار القديم

 

 

تطورت قوانين الإيجار في مصر عبر المراحل التاريخية. قبل عام 1920، لم تكن هناك قوانين تحكم العلاقة بين المالك والمستأجر، لكن أول تنظيم قانوني جاء مع فرمان سلطاني يمنع إخراج المستأجرين المصريين لصالح الأجانب. ثم جاء قانون عام 1941 الذي منع رفع الإيجار بسبب ظروف الحرب.

 

في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، صدرت قرارات هدفت إلى تشجيع الإيجار لتخفيف أزمة الإسكان الناتجة عن الهجرة من الريف، مع خفض القيمة الإيجارية. ثم جاء قانون رقم 49 لسنة 1979، وقانون 136 لسنة 1981 الذي حدد القيمة الإيجارية بنسبة 7% من قيمة الأرض، مع زيادات للإيجارات غير السكنية بين 5% و30%.

 

ومع ذلك، شهد عام 2002 حكمًا من المحكمة الدستورية العليا يقصر الامتداد القانوني لعقد الإيجار على جيل واحد فقط. وحتى الآن، يوجد في مصر ثلاثة أنظمة للإيجار: الإيجار القديم المبرم قبل عام 1996 الذي يتميز بثبات القيمة الإيجارية وعدم تحديد مدة العقد، والإيجار الجديد الذي يخضع لقانون رقم 4 لسنة 1996 ويكون محدد المدة وبقيمة تنافسية وفقًا للسوق، وأخيرًا الإيجار القديم المحدث الذي ينظم العقود بموجب القانون نفسه، حيث يدفع المستأجر مبلغ “خلو” يُخصم من الإيجار أو يُسترد عند مغادرة الوحدة، مع تحديد مدة العقد بـ 99 عامًا ووضع زيادات سنوية ضمن شروط العقد، لكنه يُطبق غالبًا في المناطق العشوائية وبقيمة أقل من الإيجار الجديد.

 

الحكم على الإيجار القديم

 

من جانبه، قال أحمد البحيري، المستشار القانوني لجمعية المضارين من قانون الإيجار القديم، إن الحكم الصادر يمثل “ضربة قاضية لقانون الإيجار القديم”، حيث يعتمد هذا القانون على ثلاثة أركان رئيسية: الامتداد، التوريث، والقيمة الإيجارية. وأضاف البحيري أنه إذا سقط أي ركن من هذه الأركان، فإن القانون بأكمله يصبح غير قابل للاستمرار. وأكد أن الحكم ملزم لكل مؤسسات الدولة، بما في ذلك البرلمان، مما يفرض إجراء تعديلات شاملة على قانون الإيجار القديم رقم 136 لسنة 1981 وقانون 49 لسنة 1977.

 

وشدد البحيري على ضرورة مراجعة الأوضاع القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، مشيرًا إلى أن تثبيت القيمة الإيجارية جاء بسبب ظروف تلك الفترة واستمر لعقود دون النظر إلى مصالح الملاك. وكشف البحيري عن إعداد الملاك “الوثيقة القانونية للمؤجرين”، وهي مذكرة إيضاحية موجهة إلى مجلس النواب تتضمن رؤيتهم للفترة الانتقالية. وتشمل هذه الرؤية تحديد حد أدنى للإيجار بـ 2000 جنيه في المناطق الشعبية، 4000 جنيه في المناطق المتوسطة، و8000 جنيه في المناطق الراقية، مع زيادات سنوية بنسبة 20% لمدة عامين، قبل تحرير العلاقة الإيجارية بالكامل.

 

في أعقاب صدور الحكم، أصدر البرلمان المصري بيانًا أوضح فيه أنه كلف لجنة الإسكان بإعداد دراسة متكاملة عن قوانين الإيجار القديم. وتضمنت الدراسة تقييم الأثر التشريعي لهذه القوانين، مع التركيز على خلفيتها التاريخية وأحكام المحكمة الدستورية. وأشار البيان إلى أن لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير أعدت تقريرًا مبدئيًا سيتم مناقشته في الجلسات العامة المقبلة.

 

 

من جانبه، أوضح محمد عطية الفيومي، رئيس لجنة الإسكان بمجلس النواب، أن الحكم الأخير لم يتطرق إلى امتداد العلاقة الإيجارية أو انتهائها أو مدتها، بل ركز فقط على ثبات القيمة الإيجارية. وأكد الفيومي أن البرلمان يعكف على دراسة الملف بعناية، بحيث يتم مراعاة حقوق جميع الأطراف وفقًا لطبيعة كل منطقة.

 

وأشار الفيومي إلى أنه من غير المتوقع أن تصل القيمة الإيجارية في التعديلات الجديدة إلى مستوى القيمة السوقية، وذلك مراعاةً للبعد الاجتماعي، لكن التفاصيل النهائية ستُناقش بعد استكمال الدراسات اللازمة.

 

بين القلق والأمل

 

وحتى ينتهي البرلمان من مناقشة تعديلات القانون، يبقى حنا عبد الملاك، المستأجر السبعيني، في حالة من القلق والخوف من أعباء مادية قد لا يستطيع تحملها. وعلى الجانب الآخر، يعيش عماد السيد، المالك المحروم من عوائد ميراثه، على أمل أن توفر التعديلات الجديدة الإنصاف الذي ينتظره منذ عقود.

 

اقرأ أيضًا:

 

“وهم ارتفاع الأسعار”.. ماذا يحدث في قطاع العقارات المصري؟

 

سعي مصري خليجي.. ما جاذبية الاستثمارات في البحر الأحمر؟

 

حزب الغد يطالب الحكومة الجديدة بمراجعة منظومة الدعم

 

ما تبعات “التحول إلى الدعم النقدي” على أسعار السلع؟

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية