في خضم عاصفة “التطوير” التي تجتاح مصر، تبدو ملامح الهوية المصرية مهددة تحت وطأة مشاريع وصفها البعض بالتعسفية. إذ طالت يد التغيير العنيف مكونات جوهرية من التراث والبيئة الزراعية.
قرارات صارمة، تتوارى خلف ستار التحديث، باتت تُشكّل خطرًا داهمًا على ذاكرة الوطن التاريخية، محوِّلةً مساحات خضراء ومعالم تراثية إلى جُزر من الأسمنت والمشاريع التجارية. هذه القرارات لا تكتفي بطمس قيمة الأماكن التاريخية، بل تسعى بلا هوادة إلى اقتلاع جذور العلاقة المتينة التي تربط المصريين بأرضهم وتاريخهم.
الحدائق التراثية، التي طالما كانت رئةً للتنفس ومأوى للروح المصرية، تجد نفسها اليوم عُرضةً للزوال تحت ضربات المشاريع الاقتصادية السريعة. إذ تُختصر قرونٌ من التاريخ والجمال الطبيعي في نظرة مادية ضيقة لا تستوعب ثراء تلك المساحات الخضراء. وكأن هذا التحديث المزعوم يمحو عمدًا ما يربط بين الماضي والحاضر، بين الطبيعة الإنسانية والبيئة التي نشأت فيها.
هذه التحركات العشوائية، التي تتغافل عن الأهمية البيئية والثقافية، تترك في النفوس أثرًا يشبه جرحًا غائرًا، ما يهدد بتحويل تراث الأمة إلى شبح من الذكريات الباهتة. ولعل الحدائق التراثية، التي تحمل في طياتها قصصًا تمتد إلى عصور مضت، مثل حديقة الزهرية في الزمالك، التي تجد نفسها تحت تهديد جائر بالتحول إلى مشاريع استثمارية، دون النظر إلى التزام الدولة بحماية تراثها الطبيعي والثقافي، كما ينص عليه الدستور. تُعتبر هذه الحديقة واحدة من التهديدات التي تحيك بمستقبل المصريين التراثي.
معلومات عن الحديقة التراثية
تقع حديقة الزهرية وهي واحدة من أقدم الحدائق التراثية في القاهرة في جزيرة الزمالك، بالقرب من برج القاهرة. منذ إنشائها في القرن التاسع عشر في عهد الخديوي إسماعيل كجزء من مشروعه لتحويل القاهرة إلى “باريس الشرق”.
كانت الحديقة جزءًا من مجموعة حدائق أُنشئت لتقديم مساحات خضراء واسعة وجميلة لسكان العاصمة، ولتكون موطناً لأنواع نادرة من النباتات والأشجار التي جلبت من جميع أنحاء العالم. تضم الحديقة أيضًا صوبات زراعية تعود إلى الفترة الخديوية، والتي كانت تستخدم كمعامل لدراسة النباتات وإجراء التجارب الزراعية، مما جعلها مركزًا علميًا وطبيعيًا مهمًا في تلك الفترة. ومن أبرز معالم الحديقة وجود شجرة تين بنغالي نادرة، تعتبر من أشهر الأشجار في مصر.
احتفظت الحديقة بطابعها التراثي على مر العقود، وهي الآن من المعالم البارزة التي تحكي قصة التحول العمراني في القاهرة خلال القرن التاسع عشر. إلا أن الحديقة، رغم جمالها التاريخي وقيمتها البيئية، كانت تواجه إهمالًا وتدهورًا في بعض فتراتها، مما جعل الحاجة ملحة لأعمال صيانة وترميم للحفاظ على طبيعتها التراثية.
مزاعم التطوير تواجه حديقة الزهرية
أزمة كبيرة بعد قرار الدولة بإغلاقها الحديقة مؤقتًا بحجة “التطوير”، وسط مخاوف متزايدة من سكان المنطقة ونشطاء التراث والبيئة من أن يؤدي هذا التطوير إلى الإضرار بمكوناتها التراثية والطبيعية، بما في ذلك الأشجار التي يزيد عمرها عن 100 عام.
وأثار القرار جدلاً واسعًا بسبب غياب الشفافية حول طبيعة هذا “التطوير” الذي تشرف عليه جهات غير مختصة.
بعض المنتقدين، مثل نادرة زكي من جمعية تنمية الزمالك، أكدوا أن الترميم وليس التطوير هو ما تحتاجه الحديقة حفاظًا على تراثها وتاريخها.
الحديقة ستُسلم إلى “جهة سيادية” لم يتم الكشف عنها رسميًا، وفقًا لما ذكرته عدة تقارير صحفية. مع احتمال أن تتضمن الخطة إنشاء مشاريع تجارية على أرض الحديقة، مثل مطاعم أو كافيهات، وهو ما يثير مخاوف من أن يفقد هذا الموقع التاريخي طابعه الفريد. كما أن هناك اعتراضات قانونية تستند إلى الدستور المصري، الذي يلتزم بحماية التراث والمساحات الخضراء.
بعض النواب، مثل سميرة الجزار، قدّموا طلبات إحاطة للحكومة، مطالبين بوقف خطة التطوير التي قد تتضمن إنشاء مشاريع تجارية على أرض الحديقة، ما يعتبر تعديًا على قيمتها التراثية والبيئية. ومن المتوقع أن تظل الحديقة مغلقة لمدة 6 أشهر على الأقل، ما أثار استياءً واسعًا بين سكان الزمالك ومحبي الحديقة.
انتهاك للدستور
أكد المحامي البيئي أحمد الصعيدي، أنه لا يوجد شيء يسمى تطوير الأماكن التراثية، وإنما يتم الحفاظ عليها من خلال أعمال الصيانة فقط. لافتًا إلى أن الحدائق التراثية حول العالم قليلة جدًا ولا يمكن المساس بها تحت مسمى التطوير.
وأوضح الصعيدي في تصريحات خاصة لـ “MENA” أن ما يتم حاليًا في مشروع حديقة الزهرية التراثية هو انتهاك واضح للدستور، تحديدًا للمواد 45 و46 و50 التي تلزم الدولة بالحفاظ على المساحات الخضراء وضمان حق المواطنين في بيئة صحية وآمنة، فضلًا عن حماية التراث.
وأضاف: “أتمنى أن تركز المشروعات على الاستدامة البيئية الخضراء، وأن تكون هناك مشاركة مجتمعية حقيقية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالحديقة، تشمل المهندسين والدكاترة والمحامين وجميع القائمين عليها، لنتوصل إلى أفضل الحلول”.
ودعا المحامي البيئي المسؤولين، خاصة البرلمانيين، إلى إصدار تشريعات بيئية تنظم التعامل مع الأشجار في المساحات الخضراء بمصر، لأن ذلك سيكون خطوة مهمة لمنع أي مشاكل مستقبلية.
ليست مجرد مناظر خضراء
وقال الدكتور مجدي علام، مستشار برنامج المناخ العالمي وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، إن حديقة الزهرية ليست مجرد مساحة خضراء، بل تقدم خدمة صحية وطبية مهمة، إذ توفر الأكسجين اللازم لتعايش الناس وزيادة صحتهم، في ظل التحديات الصحية التي نواجهها اليوم. لذا، فإن مسألة الحدائق لا تقتصر على كونها مناظر جميلة كما يتصور البعض، بل هي جزء أساسي من حياتنا.
وأضاف مستشار برنامج المناخ العالمي في تصريحات خاصة لـ “MENA“، أن هناك دولًا تفتخر بأن لديها فدانًا من المساحات الخضراء لكل فرد، ودول أخرى تقول إنها توفر فدانين، بينما هناك دول تذهب إلى حد القول بأن الفرد يحصل على نص كيلو متر من المساحات الخضراء، مشيرًا إلى أن 95% من المساحات في الدلتا تُستخدم كمساكن، مما يعني أننا فقدنا جزءًا كبيرًا من قدراتنا الإنتاجية الغذائية.
وأكد الدكتور علام أننا عندما نتحدث عن صحة الفرد، يجب أن ندرك أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بصحة المناخ، وصحة المناخ تعتمد على الأكسجين المتوفر؛ لذا فإن المساحات الخضراء تحتاج إلى التهوية والزراعة، ومن الضروري أن نزيد من عدد الأشجار بدلاً من تقطيعها.
وختم علام تصريحاته قائلًا: “يجب أن ندرك أهمية المساحات الخضراء في تحسين نوعية الحياة، ولذا علينا العمل على حمايتها وزيادتها لتحقيق بيئة صحية للجميع”.
عريضة إلكترونية وطلب إحاطة
بدأت حالة من الغضب تطفو على السطح بين العديد من الفنانين والمثقفين وطلاب الجامعات المهتمين بالتراث، الذين أبدوا اعتراضاتهم على هذا القرار. هؤلاء الأشخاص تقدموا بعريضة إلكترونية تعترض على إغلاق الحديقة، مؤكدين أنها تمثل واحدة من المساحات الخضراء القليلة المتاحة للمواطنين في وسط القاهرة، كما أنها تحتوي على شجرة تين بنغالي نادرة، بالإضافة إلى صوبات زراعية أثرية تعود إلى الحقبة الخديوية.
وقدمت النائبة سميرة الجزار، عضو البرلمان عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، طلب إحاطة موجه لكل من: رئيس الوزراء، وزير التجارة والصناعة، وزير التنمية المحلية، وزير الصحة، وزير الزراعة، ووزيرة البيئة، مطالبة بوقف وحظر تصدير الفحم والتحقيق مع الشركات المصدرة للفحم لمعرفة إذا كان المصدر هو أشجار الشوارع والحدائق العامة المملوكة للشعب.
وقالت النائبة في طلب الإحاطة إن هناك شكوكًا أن ظاهرة قطع أشجار الشوارع والحدائق سببها شركة لأشخاص ذوي نفوذ تقوم بقطع الأشجار التي تعد ملكية عامة للشعب وتحويلها لفحم وتصديرها للكيان الصهيوني بأسعار باهظة لتحقيق الثراء السريع على حساب صحة الإنسان.
وطالبت النائبة بإصدار قرار بحظر تصدير الفحم نهائيًا وضبط وحجز الفحم المعد للتصدير وبدون تأخير.
وتعليقًا على مخاطر التطوير على المساحات الخضراء في مصر، يقول الدكتور حسام محرم، المستشار الأسبق لوزير البيئة: “إن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر لا يزال محدودًا للغاية، وهو ما يشكل تحديًا كبيرًا أمام جهودنا في مواجهة التغير المناخي والحفاظ على الصحة العامة وتنقية الهواء من التلوث، إن هذا النقص الحاد يتطلب منا اتخاذ خطوات حثيثة لزيادة المساحات الخضراء، خصوصًا في المناطق الصحراوية، لتكون جزءًا من الحل البيئي الشامل”.
ويضيف الدكتور محرم في تصريحات خاصة لمنصة “MENA“: “المشكلة لا تكمن فقط في صغر حجم المساحات الخضراء المتاحة، بل في سوء توزيعها أيضًا، نجد أن بعض المناطق السكنية، خاصة تلك ذات الكثافة السكانية العالية، تعاني من قلة المساحات الخضراء، ولذلك، من الضروري أن نعيد النظر في كيفية توزيع هذه المساحات بما يضمن استفادة جميع السكان منها بشكل عادل”.
ويتابع قائلاً: “منطقة الزمالك، على سبيل المثال، تتميز بتعداد سكاني كبير وتحتاج إلى مساحات خضراء أوسع لتلبية احتياجات سكانها، وإذا تم نقل الحديقة الحالية، فإننا بحاجة إلى بديل يقدم مساحات خضراء أكبر وأفضل توزيعًا. إن توفير هذه المساحات ليس رفاهية، بل هو ضرورة بيئية وصحية”.
ويؤكد الدكتور محرم في ختام تصريحاته على أهمية وضع خطة وطنية شاملة تضمن زيادة نصيب الفرد من المساحات الخضراء وتحسين توزيعها في مختلف المناطق، بما يحقق التوازن البيئي ويعزز جودة الحياة للمواطنين في جميع أنحاء مصر.
اقرأ أيضًا:
تدشين مشروع رأس الحكمة.. ماذا عن الكواليس؟
رأس البر..ساحل شمالي آخر أم صفقة جديدة؟
التغيرات المناخية هل تؤثر على الزراعة المصرية