وسط تعقيدات المشهد السياسي في القرن الأفريقي، حيث تتشابك المصالح وتتزايد التوترات، لم تكن الساحة الصومالية سوى امتداد آخر للصراع الخفي بين مصر وإثيوبيا. لكن ما بدا صراعًا مفتوحًا فاجأ الجميع بتحوله إلى صفحة جديدة من المصالحة بين الصومال وإثيوبيا، برعاية تركية، في خطوة بدت وكأنها تعيد صياغة قواعد اللعبة السياسية في المنطقة.
هذا التحول المفاجئ لم يغير فقط ملامح التحالفات الإقليمية، بل ألقى بظلاله على استراتيجيات الأطراف الفاعلة، واضعًا مصر أمام واقع جديد مليء بالتحديات والفرص. كيف ستتعامل القاهرة مع هذا التحول؟ وهل سيبقى الصومال ساحة للتنافس أم بداية لحقبة جديدة من التوازنات؟
يأتي الدور التركي في المصالحة بين الصومال وإثيوبيا كجزء من استراتيجيتها لتوسيع نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، للحد التوترات الإقليمية بين الأطراف الكبرى. تركيا، التي استثمرت في البنية التحتية والمشاريع التنموية في الصومال، تسعى من خلال هذه الوساطة إلى تعزيز موقعها كلاعب محوري في حل النزاعات الإقليمية.
ومع ذلك، فإن هذا التحرك قد يُقرأ كمحاولة لتقييد النفوذ المصري في الصومال، خاصة مع العلاقات القوية التي تربط القاهرة بمقديشو، والتي كانت تُستخدم كورقة ضغط في الصراع مع أديس أبابا بشأن سد النهضة.
بالنسبة لمصر، فإن التقارب بين الصومال وإثيوبيا يعيد رسم حدود النفوذ المصري في منطقة القرن الأفريقي. فقد استخدمت القاهرة في السابق دعمها للصومال كوسيلة للتصدي للسياسات الإثيوبية العدائية، خاصة في ملف مياه النيل. المصالحة الحالية، التي تأتي برعاية طرف ثالث مثل تركيا، قد تحدّ من قدرة مصر على لعب هذا الدور.
كما أن هذا التحول يضع أديس أبابا في موقف استراتيجي أقوى، حيث تسعى لتفادي العزلة الإقليمية عبر تعزيز تحالفاتها، مما قد يضع ضغوطًا إضافية على القاهرة لإعادة تقييم نهجها في المنطقة.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الصومال وإثيوبيا توصلا مؤخرًا إلى اتفاق وصفه بـ “التاريخي”، بعد مفاوضات استضافتها أنقرة بوساطة تركية، بهدف إنهاء التوترات القائمة بين البلدين الجارين في القرن الأفريقي.
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أعرب أردوغان عن أمله في أن يمثل هذا الاتفاق “نقطة انطلاق جديدة” نحو بناء علاقة قائمة على السلام والتعاون بين مقديشو وأديس أبابا.
وتضمن نص الاتفاق، الذي نشرته الحكومة التركية، تعهد الطرفين بالتخلي عن القضايا الخلافية والعمل المشترك لتحقيق الازدهار المتبادل. كما تضمن الاتفاق بنودًا تدعو إلى إبرام اتفاقيات تجارية ثنائية تضمن لإثيوبيا منفذًا بحريًا آمنًا ومستدامًا تحت السيادة الكاملة لجمهورية الصومال الفيدرالية.
وبموجب الاتفاق، سيباشر الطرفان قبل نهاية فبراير المقبل محادثات فنية لحل الخلافات العالقة، على أن تستمر المفاوضات لمدة لا تزيد على أربعة أشهر، بمساعدة تركيا إذا دعت الحاجة.
الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء الإثيوبي كانا قد وصلا إلى أنقرة قبل أيام للمشاركة في هذه الجولة من المفاوضات، التي نظمتها تركيا بعد محاولتين سابقتين لم تحقق تقدماً.
ورغم التحديات التي تفرضها هذه المصالحة على مصر، إلا أنها قد تفتح أيضًا الباب أمام فرص جديدة. التقارب بين الصومال وإثيوبيا قد يقلل من التوترات الإقليمية، مما يتيح للقاهرة فرصة لدفع حوار متعدد الأطراف يعالج القضايا الكبرى، مثل تقاسم الموارد المائية وضمان الاستقرار الإقليمي.
في الوقت نفسه، يتطلب هذا التطور من مصر إعادة ترتيب أوراقها، سواء بتعزيز وجودها الاقتصادي والدبلوماسي في الصومال، أو بإقامة شراكات استراتيجية مع أطراف جديدة في المنطقة لموازنة النفوذ التركي والإثيوبي المتصاعد.
وفي هذا السياق، يؤكد محمد مصطفى أبو شامة، مدير المنتدى الاستراتيجي للفكر والحوار، أن المصالحة بين الصومال وإثيوبيا تمثل خطوة إيجابية ومبشرة في ظل التوترات الإقليمية الراهنة، خاصة مع تنامي العلاقات المصرية-التركية، ما يجعل هذا التقارب في سياق يخدم الاستقرار الإقليمي.
وأشار أبو شامة، في تصريحات لمنصة “MENA“، إلى أن “تباين الأدوار بين مصر وتركيا يُعد عنصرًا صحيًا للعلاقات الثنائية، حيث يعكس تكامل التحركات بين البلدين حرصًا على تحقيق الأمن والسلم الإقليمي. هذا التوجه يتجاوز التنافس الذي يحاول البعض تضخيمه إعلاميًا، ويثبت أن التنافس في إطاره الشرعي يمكن أن يسهم في تعزيز القدرات الإقليمية والدولية لكلا الطرفين”.
وأضاف مدير المنتدى الاستراتيجي للفكر والحوار، أن “المصالحة الإثيوبية-الصومالية، بعكس ما يعتقد البعض، قد تصب في صالح العلاقات المصرية مع كلا البلدين، حيث من شأنها تهدئة حدة التوترات مع إثيوبيا وتعزيز الاستقرار في المنطقة”.
كما أوضح أن “الدور المصري في حماية أمن الصومال يظل حاضرًا بقوة، حيث ساهمت الجهود المصرية في تسريع وتيرة الحلول للتحديات بين الجانبين، وهو ما يعكس أهمية التحركات المصرية في دعم استقرار القرن الأفريقي”.
وأكد أبو شامة أن “مصر تثمن جميع أشكال العلاقات الطيبة بين الدول، وتؤكد أن المصالحة الصومالية الإثيوبية لن تؤثر بأي شكل على الاتفاقات القائمة بين مصر والصومال. تلك الاتفاقات لم تكن موجهة ضد أي طرف، وإنما جاءت دعمًا لاستقرار بلد عربي شقيق وعضو في الجامعة العربية”.
وبحسب الدكتور ممدوح المنير، المحلل السياسي، فإن المصالحة بين إثيوبيا والصومال، التي تمت برعاية تركية، تأتي في سياق إقليمي متشابك تسعى فيه أنقرة لتعزيز نفوذها في منطقة القرن الإفريقي، بوصفها منطقة استراتيجية تربط بين الخليج العربي والقارة الإفريقية.
تركيا، التي تسعى منذ سنوات لترسيخ دورها كقوة مؤثرة في إفريقيا، ترى في هذه المصالحة فرصة لتعزيز حضورها في المعادلة السياسية بالمنطقة، خاصة بعد نجاحها في إنشاء قاعدة عسكرية في مقديشو واستثماراتها الواسعة في البنية التحتية. هذا التحرك التركي يعكس استراتيجيتها للعب دور الوسيط الموثوق، في ظل تقاطع المصالح الدولية والإقليمية في القرن الإفريقي.
ويضيف المنير، في تصريحات لمنصة “MENA“، أن الصومال تُعد المصالحة خطوة لاستعادة التوازن في علاقاتها الإقليمية وتقليل النفوذ الإثيوبي، الذي طالما كان مصدرًا للخلاف، خاصة مع دعم إثيوبيا لكيانات منشقة مثل “أرض الصومال”. أما إثيوبيا، فتسعى لاستغلال المصالحة لتأمين مصالحها الاقتصادية، مثل الوصول إلى موانئ بحرية تخفف من عبء كونها دولة حبيسة، وهو ما يدعم طموحاتها لتوسيع نفوذها الجيوسياسي.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأساسي: هل ستلتزم إثيوبيا بالمصالحة دون السعي لتحقيق مكاسب استراتيجية جديدة قد تثير حفيظة مقديشو؟
يرى الخبير السياسي أن بالنسبة لمصر، التي تربطها علاقات قوية بالصومال، يُعد دعم وحدة الأراضي الصومالية مسألة جوهرية لمواجهة أي محاولات إثيوبية لتوسيع نفوذها عبر الكيانات المنشقة. ورغم أن المصالحة قد تبدو في ظاهرها خطوة إيجابية، إلا أن أي تحالف إثيوبي-صومالي محتمل قد يعقد المعادلة الإقليمية بالنسبة لمصر، خاصة إذا أفضى إلى تعزيز النفوذ الإثيوبي في مناطق قريبة من الممرات البحرية الاستراتيجية.
لذا، من المتوقع أن تسعى مصر لتكثيف تعاونها مع الحكومة الصومالية الشرعية لحماية مصالحها الإقليمية وتعزيز استقرار القرن الإفريقي بما يتماشى مع أهدافها الاستراتيجية.
ويتابع المنير: رغم أن الصومال ليست من دول حوض النيل، فإن أي تعاظم للدور الإثيوبي في القرن الإفريقي يعزز موقعها التفاوضي في ملف سد النهضة. إثيوبيا، التي تواجه معارضة مصرية سودانية في هذا الملف، قد تستغل أي مكاسب إقليمية لتعزيز موقفها، خاصة إذا تمكنت من تطوير موانئ أو قواعد عسكرية تسهم في تأمين مصالحها الاقتصادية والعسكرية.
بالنسبة لمصر، فإن هذه المصالحة قد تعني مزيدًا من التعقيد في التعامل مع إثيوبيا، التي أظهرت مرارًا قدرتها على المناورة في القضايا الإقليمية.
ويختتم الخبير السياسي تصريحاته قائلًا: “المصالحة بين إثيوبيا والصومال تمثل بداية فصل جديد في المشهد الإقليمي، لكنها ليست نهاية القصة. التوترات الإقليمية والاختلافات الجذرية في المصالح تظل قائمة، مما يجعل من الصعب ضمان استدامة هذه المصالحة دون تدخلات دولية وإقليمية. بالنسبة لمصر، فإن الصراع مع إثيوبيا لم يعد مقتصرًا على المياه وسد النهضة فقط، بل امتد إلى سباق النفوذ في القارة الإفريقية. المستقبل يفرض على مصر استراتيجية شاملة للتعامل مع إثيوبيا، تجمع بين الدبلوماسية، وتعزيز التحالفات الإقليمية، ومواصلة تقوية وجودها في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، خاصة القرن الإفريقي”.
هذا وأعلن عباس شراقي، أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرة، أن المصالحة بين الصومال وإثيوبيا تبدو حتى الآن غير واضحة المعالم التنفيذية، قائلًا: “تركيا ربما تلعب دورًا في تقريب وجهات النظر، لكن لم تُتخذ خطوات عملية حتى الآن. إثيوبيا تسعى لإنشاء قاعدة عسكرية على أرض الصومال، التي تُعد جزءًا منفصلًا عن الصومال، وهو ما كان يثير غضب الحكومة الصومالية”.
وأضاف شراقي، في تصريحات لمنصة “MENA“: “ما تم الإعلان عنه حتى الآن يقتصر على تقارب وجهات النظر بين الجانبين، ولم يتم الكشف عن تفاصيل أي اتفاق حقيقي، سواء بشأن إنشاء ميناء لإثيوبيا أو تعزيز التعاون المشترك. الأيام القادمة ستحدد مدى تأثير هذه المصالحة وما إذا كانت ستتحول إلى خطوات ملموسة على أرض الواقع”.
وفيما يتعلق بسد النهضة، أوضح شراقي أن “المصالحة بين إثيوبيا والصومال لن تؤثر بشكل مباشر على ملف سد النهضة، نظرًا لأن الصومال ليست من دول حوض النيل. ومع ذلك، فإن أي تعزيز للنفوذ الإثيوبي في القرن الإفريقي، مثل إنشاء ميناء أو قاعدة عسكرية، يعزز موقف إثيوبيا الإقليمي، وهو ما تحاول مصر مقاومته بشتى الطرق”.
وأكد شراقي أن “مصر تدعم وحدة الأراضي الصومالية وترفض الاعتراف بأي كيانات منشقة، مثل أرض الصومال، التي تسعى للتحالف مع إثيوبيا في مخالفة واضحة للقانون الدولي. ولهذا السبب، تُساند مصر الحكومة الصومالية الشرعية، ووافقت على المشاركة في قوات حفظ السلام التي ستبدأ عملها في يناير القادم، بعد استبعاد إثيوبيا بناءً على طلب الصومال من الاتحاد الإفريقي”.
واختتم شراقي تصريحاته بالقول: “الخلاف مع إثيوبيا يتجاوز سد النهضة، حيث بدأت مرحلة جديدة من الصراعات التي تشمل بناء سدود أخرى وما يتبعها من مشاكل في ملء وتفريغ المياه. نحن أمام صراع طويل الأمد مع إثيوبيا، شبيه في تعقيداته بالعلاقة التاريخية مع إسرائيل. المستقبل يحمل تحديات كبيرة، لكن مصر تظل مستعدة لمواجهة هذه التحديات بكل قوة”.
اقرأ أيضًا:
السد الإثيوبي يدخل مصر في مرحلة الفقر المائي.. ماذا بعد؟
أزمة أرض الصومال.. ترقب مصري حتى تنصيب ترامب
رسائل مصر إلى إثيوبيا ودور الإمارات في قضية سد النهضة | تقرير
السفير جمال بيومي: مصر قدمت عرضاً لبناء سد النهضة