تحليلات

ما حظوظ “صيادي البردويل” أمام الاستثمار الأجنبي؟

في قلب سيناء، حيث تلتقي الرمال بالبحر، تتربع بحيرة البردويل كواحدة من أبرز المساحات الطبيعية التي تجمع بين السكون والجمال البكر. ومع إعلان الحكومة وضع يدها على تلك البحيرة الثمينة، يُفتح ملفٌ شائكٌ عن مصير هذه الثروة المائية، التي كانت على مر العصور رمزًا للاستدامة والعيش البسيط للصيادين المحليين. ولكن في لحظة تاريخية حساسة، تنكشف خلفيات هذه الخطوة الكبيرة التي اتخذتها الدولة: هل هي بداية لحقبة جديدة من الاستغلال الاقتصادي؟، أم أن المصير سيظل في يد الصيادين الذين ارتبطت حياتهم بهذه المياه؟

 

الاستحواذ على بحيرة البردويل في هذا التوقيت يعكس تغييرًا جذريًا في المشهد الاقتصادي المصري، حيث تسعى الدولة لتفعيل استراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة. فهل هو استثمار في مصلحة الأجانب؟، أم أن القرار يهدف إلى تحقيق مصلحة وطنية بحتة؟ وما مصير الصيادين الذين عانوا في السابق من الأزمات البيئية والاقتصادية؟ أسئلة تحمل في طياتها أكثر من إجابة، وتفتح الباب نحو سياسات قد تعيد تشكيل المعادلة الاقتصادية في المنطقة.

 

تأخذنا هذه الخطوة إلى ما وراء المشهد الظاهري، إلى حيث تتشابك المصالح الوطنية مع تحديات التنمية المستدامة، وتطرح علامات استفهام حول الصراع بين الحفاظ على التراث المائي والحاجة إلى النمو الاقتصادي.

 

وأعلنت الحكومة مؤخرًا إسناد مهمة تطوير وإدارة بحيرة البردويل لجهاز “مستقبل مصر للتنمية المستدامة”، وذلك في إطار خطة تهدف إلى زيادة الإنتاج السمكي للبحيرة وتحسين أوضاع الصيادين. يأتي هذا القرار تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أكد ضرورة تحسين إنتاجية البحيرة بما يخدم الاقتصاد الوطني. وقد شهدت الأشهر الماضية عددًا من الإجراءات التنموية التي شملت تطهير البواغيز الرئيسية للبحيرة وتنظيف أطرافها، بالإضافة إلى اتخاذ خطوات لمنع تصحرها الناتج عن حركة الكثبان الرملية.

 

شائعات بيع البحيرة

 

وفي هذا السياق، قال المستشار محمد الحمصاني، المتحدث الرسمي باسم رئاسة مجلس الوزراء، إن جهاز “مستقبل مصر للتنمية المستدامة” سيبدأ في تنفيذ أعمال تنمية بحيرة البردويل. وأوضح أن الهدف من إسناد هذه المهمة للجهاز هو تعزيز التنمية الاقتصادية للبحيرة، وإعادتها إلى ما كانت عليه سابقًا، حيث سيتم تطوير مراسي الصيد لزيادة الإنتاجية السمكية، بالإضافة إلى تحسين عمليات النقل والتداول، بما يسهم في زيادة دخل الصيادين والعاملين في المنطقة.

 

وأكد الحمصاني أن هناك توجيهات من القيادة السياسية بتقديم حزمة متنوعة من المساعدات الاجتماعية للصيادين، لدعمهم في استعادة البحيرة لطاقتها الإنتاجية من الأسماك. ونفى المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء الشائعات التي تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن بيع بحيرة البردويل، مؤكدًا أن هذه الادعاءات غير صحيحة تمامًا، وداعيًا الجميع إلى الحصول على المعلومات من مصادرها الرسمية، في ظل الحملة الإعلامية المستمرة التي تستهدف زعزعة الاستقرار وإحداث البلبلة في المجتمع.

 

جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة يستهدف زيادة إنتاج الأسماك في بحيرة البردويل إلى 11 ألف طن سنويًا، من خلال تنفيذ خطة تطوير شاملة تشمل تحسين مراسي الصيد، وتنمية عمليات النقل والتداول، بالإضافة إلى تقديم حوافز اجتماعية للصيادين لتحفيزهم على العمل بأقصى طاقاتهم. في هذا السياق، تم تخصيص أراضٍ جديدة بشمال سيناء لصالح الجهاز للاستزراع السمكي، في خطوة تهدف إلى تعزيز الثروة السمكية في المنطقة.

 

جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة

 

وتأسس جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة في عام 2022 بهدف تنفيذ مشروعات زراعية وتنموية ضخمة في مختلف أنحاء مصر وتحت إشراف القوات الجوية. يتميز الجهاز بإشرافه على عدة مشروعات استراتيجية في مجالات الزراعة والاستصلاح السمكي، بما في ذلك مشروع الدلتا الجديدة واستصلاح الأراضي في مناطق متعددة مثل الصعيد والشمال الغربي.

 

وبرز دور الجهاز في تطوير القطاع الزراعي على نحو سريع، بما في ذلك استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة في مناطق مختلفة، وهو ما يُعتبر خطوة هامة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية وتعزيز صادرات مصر. وضمن التوجهات المستقبلية للجهاز، أعلن الرئيس السيسي عن تخصيص أراضٍ جديدة لشمال سيناء للاستزراع السمكي، بالإضافة إلى دعم القطاع الزراعي بشكل عام.

 

من خلال هذه المشاريع التنموية، يتضح أن جهاز “مستقبل مصر” سيلعب دورًا محوريًا في تحقيق التنمية الشاملة، ليس فقط في الزراعة بل أيضًا في تنمية الثروة السمكية، وهو ما سيكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد المحلي والوطني.

 

التطورات المستقبلية

 

ومع استمراره في تنفيذ مشروعات التنمية، يسعى جهاز “مستقبل مصر” إلى زيادة قدراته التشغيلية من خلال التوسع في مشروعات الاستصلاح والاستزراع، إضافة إلى خلق فرص عمل جديدة وتحسين البنية التحتية في المناطق المستهدفة. كما يعكف الجهاز على تطوير آليات الصيد وتوفير تقنيات حديثة لزيادة الإنتاجية بشكل مستدام، بما يعود بالنفع على الصيادين والمجتمع المحلي.

 

وفقًا للمتفائلين، تُعد توجيهات القيادة السياسية لمواصلة خطة تطوير بحيرة البردويل خطوة هامة في تعزيز الاستفادة من المقومات الطبيعية لهذه البحيرة، ومن المتوقع أن يسهم المشروع في تحسين الوضع الاقتصادي في شمال سيناء، ويعزز من مكانة مصر كداعم رئيسي في مجال الثروة السمكية على مستوى البحر الأبيض المتوسط.

 

 

تلبية حاجة السوق من الأسماك

 

خالد الشافعي، الخبير الاقتصادي، يقول إن ضم بحيرة البردويل إلى جهاز “مستقبل مصر للتنمية المستدامة” يعد خطوة هامة نحو تطوير البحيرة وتحقيق أقصى استفادة منها. وأكد أن هذا التطوير سيمكن بحيرة البردويل من تلبية احتياجات السوق المحلي من الأسماك بشكل أكثر كفاءة، وتنظيم العمل داخل البحيرة بشكل يعزز الإنتاجية.

 

وأضاف الشافعي في تصريحات خاصة لمنصة “MENA” أن الهدف من هذا التطوير ليس فقط زيادة حجم الإنتاج، بل أيضًا تحقيق تحسن ملحوظ في أوضاع الصيادين العاملين في البحيرة، من خلال وضع آلية منظمة للدخول والخروج، وتنظيم الكميات المنتجة لتمكين السوق المحلي من الاستفادة القصوى. كما أشار إلى أن التطوير سيسهم في تحقيق فائض داخلي من الأسماك، مما يفتح المجال لتصدير الفائض إلى الأسواق الخارجية، وهو ما يحقق مكاسب اقتصادية هامة.

 

ويوضح الشافعي أن الهدف الرئيسي من التطوير هو زيادة الإنتاج، توفير فرص عمل جديدة، وتعزيز حجم الناتج المحلي. كما لفت إلى أن آلية التطوير تتطلب التزامًا بمسؤوليات عدة، أولها التنسيق مع الصيادين الموجودين حاليًا في البحيرة لضمان الحفاظ على حقوقهم، وضمان توفير أماكن لهم في المرحلة المقبلة بعد التطوير.

 

وأكد الشافعي أنه في حال عدم قدرة الصيادين على العودة للعمل في البحيرة بعد إعادة تطويرها، يجب تعويضهم ماديًا عن مصادر الدخل التي فقدوها نتيجة التغييرات التي ستطرأ على ظروف عملهم. وأوضح أن هذا يُعد جزءًا من تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق العاملين في هذا القطاع المهم.

 

 

التكاليف المجتمعية

 

الدكتور أشرف شبل، أستاذ الاقتصاد بكلية الثروة السمكية في جامعة السويس، يرى أنه لتحقيق تطوير مستدام، يجب أخذ الآثار الخارجية في الحسبان، بما في ذلك العوائد والتكاليف المجتمعية التي تكون في الأصل غير مباشرة. وأوضح أن مفهوم التنمية لا يقتصر فقط على زيادة الإنتاج، بل يجب أن يأخذ في اعتباره استدامة البيئة وحمايتها، حيث إن الإهمال في الموارد البيئية يؤدي إلى إغفال القيم المرتبطة بالتكاليف والعوائد في دراسات المشروعات الاستثمارية.

 

وأشار شبل في حديثه معنا إلى أن المعاناة التي يعاني منها العالم اليوم هي نتيجة الإهمال في إدارة الموارد البيئية عند إعداد دراسات الجدوى الخاصة بالمشروعات الاستثمارية، مضيفًا أنه عندما نتحدث عن الاستدامة، يجب أن نتطرق إلى الموارد الطبيعية والبيئية معًا، وليس الطبيعة فقط.

 

وفيما يتعلق ببحثه الذي أجراه على بحيرة البردويل، والذي شمل مقابلة 67 صيادًا في عام 2024، يقول شبل إن الصيادين يواجهون مجموعة من التحديات التي تؤثر سلبًا على الإنتاجية، فقد تم رصد العديد من المشاكل البيئية والإنتاجية والتسويقية والصحية التي تؤثر بشكل مباشر على قدرة الصيادين على زيادة الإنتاج، وبالتالي تؤثر على الإنتاج الكلي للأسماك في البحيرة.

 

حقوق الصيادين

 

ويقترح شبل في بحثه بعنوان “تحليل اقتصادي إرشادي لإنتاج الأسماك من بحيرة البردويل”، والذي نشر في مجلة اتحاد الجامعات العربية للعلوم الزراعية بجامعة عين شمس في عام 2020، مجموعة من الحلول للتحديات التي تواجه البحيرة. ويؤكد أن الهدف الأساسي من تطوير البحيرة هو تحسين الأداء الإداري وتعزيز الأوضاع الصحية، إضافة إلى تحسين العمليات التسويقية وزيادة القدرات الإنتاجية والتمويلية لوحدات الصيد، كما يشدد على ضرورة زيادة الاهتمام بالجوانب البيئية لضمان استدامة الإنتاج.

 

ولفت شبل أيضًا إلى أهمية توفير فرص عمل بديلة للصيادين خلال فترات غلق البحيرة، وذلك من خلال إنشاء مشروعات تنموية مثل صناعة وتوفير مستلزمات الصيد، كالشباك والمعدات الأخرى التي يستخدمها الصيادون أثناء فترة الصيد.

 

وفي الختام، يشدد شبل على ضرورة الالتزام بتطبيق بنود قانون الصيد وتنظيم إدارة المسطح المائي لبحيرة البردويل بما يتماشى مع برنامج التنمية المستدامة، مع ضرورة منع المخالفات والحفاظ على الفتحات الطبيعية للبحيرة لضمان استدامة بيئتها ومنع أي تهديدات قد تؤثر على إنتاجيتها في المستقبل.

 

 

قيمة بيئية واقتصادية

 

المهندس حسام محرم، المستشار الأسبق لوزير البيئة، يؤكد أن “تطوير بحيرة البردويل، الواقعة في شمال مصر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعد خطوة ذات أهمية بالغة، إذ تحمل هذه البحيرة قيمة بيئية واقتصادية كبيرة نظراً لخصائصها الفريدة وأثرها المباشر على البيئة المحلية والاقتصاد الوطني”.

 

ويضيف محرم في تصريحاته لمنصة MENA: “من الناحية البيئية، تعتبر البحيرة موطناً حيوياً للعديد من الكائنات، بما في ذلك الطيور المهاجرة التي تمر عبر مساراتها في هذه المنطقة، فهي تمثل ملاذاً للعديد من الأنواع التي تستفيد من المياه المالحة والمناطق الرطبة، وبالتالي فإن تطوير البحيرة يمكن أن يسهم في تعزيز التنوع البيولوجي والحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض”.

 

ويوضح أن “البحيرة تعمل كخزان طبيعي للمياه، وتحافظ على مستوى المياه الجوفية، إلى جانب دورها في تنقية الملوثات التي قد تصل إليها عبر الأنهار والمجاري المائية، مما يجعلها حاجزاً طبيعياً ضد التلوث”.

 

وأكد محرم أن “تطوير البحيرة بشكل مستدام يمكن أن يسهم في تعزيز استقرار النظام البيئي الساحلي، كما أنه يعزز الاستفادة من الموارد الاقتصادية التي توفرها للمجتمع المحلي ويمثل إضافة قوية للاقتصاد القومي بشكل عام”.

 

 

بحيرة البردويل

 

تُعتبر بحيرة البردويل ثاني أكبر بحيرات مصر بعد بحيرة المنزلة وقبل بحيرة البرلس، بمساحة شاسعة تقارب 165 ألف فدان، وتقع في شمال سيناء. تتميز هذه البحيرة بنقاء مياهها، إذ تعدّ من أنقى بحيرات العالم لخلوّها من الملوثات.

تمتد البحيرة بطول يصل إلى نحو 130 كيلومترًا، وترتبط بالبحر المتوسط عبر ممر ضيق يبلغ عرضه حوالي 100 متر. في فصل الشتاء، تصبح البحيرة مسطحًا مائيًا موحدًا، بينما ينحسر مستوى المياه في الصيف لينكشف القسم الشرقي المعروف بالزرانيق.

 

البردويل تشكل كنزًا وطنيًا للثروة السمكية في مصر، إذ يبلغ متوسط إنتاجها نحو 2600 طن سنويًا، وتضم أسماكًا عالية الجودة مثل المرجانية، والبوري، والدنيس، والقاروص، والوقار، والجمبري، وسمك موسى، والتي يتم تصديرها لقيمتها الاقتصادية العالية.

 

تتمتع البحيرة بمياه مالحة ويمتد ساحلها الشمالي الرملي على طول سيناء، إذ يفصلها عن البحر حاجز رملي يتفاوت عرضه بين مائة متر وكيلومتر، كما تضم عددًا من الجزر وتمتد أعماقها بين نصف متر وثلاثة أمتار، فيما يغطي قاعها الرملي بعض الحشائش البحرية.

 

تعد بحيرة البردويل موئلًا هامًا للطيور، حيث تعيش فيها أعداد كبيرة من طائر الخطاف الصغير والقطقاط أبو الرؤوس، اللذين تتفوق أعداد تجمعاتهما في البحيرة مقارنة بأي مكان آخر في العالم.

 

فيما يخص الصيادين، يعمل نحو 5 آلاف صياد مستخدمين قرابة 2000 قارب صيد في البحيرة، إلا أنهم يواجهون تحديًا متزايدًا يتمثل في ظاهرة الإطماء، التي تقلص من مساحة البحيرة وتهدد الإنتاج السمكي، وهي مشكلة تم توثيقها ودراستها علميًا لحلها.

 

وتقوم الحكومة، من خلال وزارات الزراعة والموارد المائية، بصيانة وتطوير مرافق البحيرة، من خلال بناء حواجز، وإنشاء قنوات شعاعية، وتوفير كراكات متقدمة تعمل باستمرار داخل البحيرة، إضافة إلى تطوير مراسيها وتنفيذ مشروعات حماية للحفاظ على مواردها السمكية وتنميتها.

 

وهكذا، تبقى بحيرة البردويل نقطة فارقة في معادلة التنمية المستدامة، حيث تتقاطع آمال الصيادين بحياة كريمة مع طموحات الدولة في تحقيق قفزة اقتصادية. هذه المياه الهادئة، التي لطالما عكست شغف الحياة لأجيال من الصيادين، تقف الآن على أعتاب تحول قد يعيد تشكيل مصيرها ويمزج بين الحفاظ على التراث الطبيعي ودفع عجلة التقدم.

 

اقرأ أيضًا:

 

تدشين مشروع رأس الحكمة.. ماذا عن الكواليس؟

 

هل بدأ الاستثمار الإماراتي في تعمير شبه جزيرة سيناء؟

 

مشروع مبنى القبة التاريخي لقناة السويس.. ما وراء التطوير؟

 

للقضاء على عشوائيات “الهجانة”.. خطة حكومية لتطوير مدينة الأمل الجديدة

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية