تحليلات

الحجاج في مقصلة سماسرة التأشيرة ولهيب الشمس





في الطريق إلى عرفات لم تكن المسألة بتلك الفرحة والسهولة واليُسر التي ظنها كثير من حجاج الزيارة الذين أُذن لهم بالعبور إلى مشعر عرفات سالكين دروبا لم يعهدوها من قبل تحت لهيب الشمس الحارقة، نحو ألفًا أو يزيد لقوا حتفهم وضياعهم في مسافة تتراوح بين 18 و25 كيلو مترات حسبما ذكر أهل الله في حج 2024 ممن عانوا من إهمال وتقصير خلافًا لدرجات الحرارة ولهيبها وسماسرة التأشيرة.



رغم انتهاء موسم الحج حسبما أعلنت السلطات المعنية في المملكة العربية السعودية بنجاح منقطع النظير٬ إلا أن أعداد المتوفين أو المفقودين لم يسدل عنها الستار بشكلٍ قاطع، ووفقًا لـ فهد الجلاجل وزير الصحة السعودي، فقد خلا موسم حج هذا العام، من أي تفشيات أو تهديدات على الصحة العامة، رغم الأعداد الكبيرة للحجاج هذا العام، والتحديات المتعلقة بارتفاع درجات الحرارة.


الجلاجل أكد قيام المنظومة الصحية بتجهيز 189 مستشفى ومركزاً صحياً وعيادة متنقلة، باستيعاب سريري يزيد على 6500 سرير، بكوادر طبية وفنية وإدارية ومتطوعين يتجاوز عددهم 40 ألفاً، وبسيارات إسعاف تزيد على 370 سيارة و7 طائرات إسعافية و12 مختبراً و60 شاحنة، لتوفير أكثر من 1860 بنداً طبياً، وفي خطوة نوعية تم تجهيز 3 مستودعات طبية متنقلة موزعة في المشاعر المقدسة.


وأوضح أن عدد الحجاج الذين تلقوا الخدمات الصحية بلغ أكثر من 390 ألف حاج، وتمّ إجراء أكثر من 28 عملية قلب مفتوح، وأكثر من 720 قسطرة قلبية، بالإضافة إلى أكثر من 1169 جلسة غسل كلوي، كما تم تقديم خدمات افتراضية عبر مستشفى صحة الافتراضي لأكثر من 5800 حاج، والتعامل المباشر مع حالات الإجهاد الحراري، وتقديم الخدمات الطبية اللازمة لهم، مشيراً إلى أن الجهود التوعوية الاستباقية أسهمت في الحد من زيادة عدد الحالات .


وبرغم الجهود الطبية إلا أن حصيلة الوفيات والمفقودين لا تزال تكشف عن كارثة لم تتضح معالمها كاملة بعد، حيث تجاوز عدد حالات الوفاة في صفوف الحجّاج هذا العام الآلاف، حسب حصيلة جمعتها وكالة الأنباء الفرنسية من سلطات الدول المعنية ودبلوماسيين أشار أحدهم إلى أن أكثر من نصف الضحايا كانوا من دون تصاريح للحج، وقد أدوا الفريضة في ظل طقس حار جدًا.



قال دبلوماسي عربي للوكالة الفرنسية -بدون الكشف عن اسمه- إن 58 حالة وفاة إضافية سُجلت في صفوف الحجاج المصريين، وهو ما يرفع عدد المصريين المتوفين في الموسم الحالي إلى 658 على الأقل .

واستنادًا إلى أعداد وفّرتها نحو 10 دول، عبر بيانات رسمية أو دبلوماسيين منخرطين في عمليات البحث عن الضحايا، بلغ عدد الوفيات في موسم الحج هذا العام 1081 وفاة .


مصر صاحبة الرقم الأكبر حتى الآن بحصيلة تجاوزت ستمائة شخصًا في عداد الأموات، وقد شكلت خلية أزمة برئاسة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، وأحيل ملف عدد من شركات السياحة إلى النيابة العامة للتحقيق فيما ارتكب من مخالفات ،  حيث قرر أحمد عيسى وزير السياحة والآثار المصري، فتح تحقيقات عاجلة وسريعة مع عدد من شركات السياحة المرخصة من قبل الوزارة، بسبب تأشيرات الزيارة، وذلك لتسببها في خداع المئات من الحجاج خلال موسم الحج هذا العام، بتأشيرات زيارة مخالفة لقانون “البوابة المصرية للحج والعمرة” وهو ما تسبب بمشكلات عديدة لهم أثناء أداء الفريضة، حيث تتضمن العقوبات الإيقاف والغرامة والحبس.


وأمر الوزير، بالتحقيق مع الشركات السياحية المخالفة للقواعد والضوابط الحاكمة والمنظمة لعملها، بعدما تم رصد مجموعة من المصريين المتجهين إلى السعودية بتأشيرات زيارة عن طريق شركات سياحة، ولوحظ أن تواريخ عودتهم تم تحديدها في شهر يوليو القادم، أي بعد انتهاء موسم الحج لهذا العام، وهو ما يعد مخالفة قانونية تستوجب العقوبة، وسط توقعات بإحالة ملف تلك الشركات للنيابة العامة .


وسط أنباء متداولة عن قيام المملكة بإلغاء تأشيرات الزيارة من الفئة ( بي . تو . سي ) الخاصة بأداء مناسك العمرة عن كل من مصر وباكستان حتي اشعار ٱخر بما تتضمنه من (الترانزيت والزيارات الشخصية) وهو الأمر الذي لم تؤكده السلطات المعنية في كل من مصر أو السعودية حتى اللحظة.




وفي محاولة لاستقصاء أسباب الأزمة التي شهدها حج 2024، خاصة فيما يتعلق بارتفاع وفيات المصريين مقارنة بالأعوام الماضية، روت شاهدة على الأحداث المؤسفة، والظروف القاسية التي تعرض لها ضيوف الرحمن: « جميع من مر إلى عرفات (زيارات أو تأشيرة) لم يسلموا من لهيب الشمس الحارقة فمنذ دقات الثانية بعد منتصف ليل مكة وحتى السابعة صباحًا يسيرون إلى المشعر في مشقة وتعب دون حافلات، أعقب ذلك تكدسات لا يتخيلها عقل أو يستوعبها بشر».


تضيف:«حرفيًا اطبخنا في الشمس، مفيش أي مكان للاستظلال به، منك للشمس حتى الشمسيات مش بتشيل ذرة حر، الأرضيه اللي جالسين عليها وصلت لدرجة الغليان من أشعة الشمس اللي حرارتها كانت 65 درجة، مفيش مكان فيه نقطة ماء حد يشربها على طريق عرفة، مفيش أي اسعافات نهائي لأي حد مغمى عليه».


تسترجع الأحداث فتقول:«والله العظيم ناس أمامي كانت بتموت، وأروح أقول للشرطي لو سمحت اتصل بالإسعاف حد بيموت يقولي مليش دعوة يا حجة روحي الله يسهل عليكي.. ست ماتت عشرة الصبح ما حد شالها من مكانها إلا ونحن نغادر عرفة».



تكمل شهادتها فتقول: «ما حدث لا يمكن وصفه سوى بالمذبحة.. لا توجد عربة إسعاف في عرفة، أو مظلات تحمينا من حرارة الشمس القاتلة، لا أماكن مهيأة للجلوس.. الموت يحيط بنا من كل اتجاه ونحن نسير بأطول ممشى وممر في العالم من عرفه حتى منى».


تردف:«خرجنا من عرفة منهارين نفسيًا وجسميًا وإعياء لاقصى درجة، مطلوب منا بعد أن صرنا مهلهلين المضي إلى مزدلفة، ساعات من السير على الأقدام، مبيت ثم خوض 4 كيلومترات إلى منى، و4 أخرى إلى الجمرات.. شباب أرهقتهم الحمى وكهولة أذابتها الشمس بأشعتها، من يشعر بالتعب تستجوبه الإسعاف قبل نقله ما إن يحمل تصريحًا أم لا، فهم في خدمة الحجاج الرسميين».



بهذه الكلمات كانت شهادة أحد حجاج الزيارة -فضل عدم ذكر اسمه-، حيث كان لسنوات يكتفي بما يسمعه عن الموت أثناء أداء فريضة الحج، لكن هذا العام عرف كيف يموتون، فهي أول حجة له، وكانت كفيلة بأن يحيا على أرض غزة وما يشاهده في التلفاز عنها، يقول:«والله ما رأيته هو أن أرض عرفة كانت كأنها أرض غزة، الجثث حولي في كل مكان كل خطوتين اتخطاهم أجد جثث الرجال والنساء كأنه المحشر، الحرارة ذلك اليوم فوق الـ 50 درجة٬ والحجاج قد التهبوا من الحرارة وارتموا أرضًا، لا شمسية تمنع الحرارة أو مظلات أو مياه باردة الوصول إليها من الصعوبة بمكان، لا يوجد إسعافات غير كيس ثلج لا نفع فيه ولا ضرر، مسجد نمرة مغلق بسبب الزحام، لا ملجأ من الحرارة غير الأرض الحارقة، والهلاك الجبري».


يمضي قائلاً: «رأيت رجلًا من شدة الحر ألقى بنفسه بالميضة (مكان الوضوء) والرجال والنساء يتوضؤون ويغتسلون عليه ومياه الوضوء في الأساس تنزل ساخنة، بينما لجأ آخر إلى بركة مياه بالتراب، النساء قمن بخلع حجابهن دون جدوى، وأخريات توفين لشدة الحرارة متكشفين، ورجل يُهلك جالسًا على الرمال ووالده في حجره متوفي ولا يستطيع فعل شئ له، وجثث على جبل الرحمة».


وتسائل : « ذنب الناس دي في رقبة مين؟!.. بعنا كل ما نملك لنحج لا لكي نموت، مفيش مظلات، مياه باردة، إسعافات»، مضيفًا:«متنا من الإهمال والتقصير، السعودية تعلم أن هناك من جاء للحج وليس للتسوق فبدلًا من الترويع والتهديد كانوا يهتموا، قصروا معنا في أبسط وسائل الحياة، استسلم من حولنا للموت لم يجد أمامه وقت للتلبية أو نطق الشهادة، حينما أذنوا لهم بالمرور كان عليهم أن يعينهم على الحياة لا أن يفرقوا وينتقوا بين النظامي وغيره، كل سنة فيه وفيات بس السنة دي الخسائر أكبر لأن العدد أكبر من حيث النسبة والتناسب، ورغم ذلك لم نسمع من مات نتيجة الزحام».




وأضاف: «ما أحزني أني رأيت حجاج تخرج أرواحهم وبجوارهم أخرون يأكلون ويشربون ويتضاحكون بشكل عادي ودون اكتراث، إن ما حدث في حج هذا العام كان أشبه بيوم القيامة حيث يفر المرء من أخيه رغبة في النجاة بنفسه٬ والإسعافات عاجزة عن العبور حيث المرضى أو المتوفيين فالكل منشغل بنفسه والكل يرغب في النجاة دون أي مساعدة تذكر».


يمضي قائلًا: «تحدث مع سائق سيارة إسعاف لكي ينقذ حاجة تلفظ أنفاسها فرد علي قائلا: «أمامي 90 بلاغا عندما انتهي منهم آتي إليك»٬ وترك الحاجة تخرج روحها وذهب دون أن يحاول إنقاذها، في وقت يتسابق الزمن ويهم الحجاج مفارقين الدنيا.



المسألة مركبة ومشتركة لكن المملكة كانت صاحبة المسؤولية الأكبر بحسب أحد المشرفين على بعثة إحدى الجمعيات في حج هذا العام، فهي من روجت لتأشيرات الزيارة العام الماضي وسمحت بالتواجد في الحج دون أي غرامات أو فرق تفتيش كما فعلت العام الحالي، لم تتعامل بتلك التفرقة بين الحجاج سواء في الأمور الطبية أو غيرها من المسائل المتعلقة بتذليل العقبات، لافتًا إلى أنهم سمحوا بالحصول على التأشيرة في أوقات الحج بما في ذلك يوم عرفة خلاف العام الماضي وهي أمور تستدعي المساءلة.


وتابع: «الزحام كان شديدًا للغاية، الأعداد فاقت الاستعدادات الطبية المتاحة، الإسعاف تلقت استغاثات عدة في ذات الوقت، إلى جانب الحالة الصحية لكبار السن ممن افترشوا الأرض للمبيت وهي أمور جميعها تعجل بتدهور الحالة الصحية لهم».


ويشدد على أن الأعداد الكبيرة للمخالفين غير المحصورة وبطاقات الهوية غير المتوافرة والزائفة رفقة البعض كانت عائقًا كبيرًا أمام الحجاج هذا العام، حيث كانت البعثات تنصح بحمل بطاقات التعريف بالحاج في كافة أمتعته حتى يتسنى التحقق منه حال الوفاة أو الفقد وهو ما لم يكن متوافرا هذا العام.



 بين أسماء الوفيات والمفقودين ومنصات التواصل الاجتماعي والعائدين بحث أهالي حاجة سبعينية العمر، ليكتشفوا دفنها دون علم أو تصريح بالدفن منهم أو أوراق ثبوتية ودون علم للقنصلية حسبما كشف ذويها، وهو فتح بابا للتساؤول عن مصائر عشرات ومئات المفقودين وهل يحق للمملكة دفنهم دون التحري عن عوائلهم وإبلاغهم؟!


وبسحب نجل شقيقتها فقد انقطعت أخبار خالته صاحبة الـ 71 عامًا وعاد من كان معها بالسكن الذي جلست به في العزيزية خلال تواجدها بتأشيرة زيارة، ووسط محاولات البحث عنها أبلغوا بقيام مستشفى المعيصم بدفنها دون الرجوع إليهم أو إخبارهم .



مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية