تحليلات

تعيينات السلك القضائي في مصر.. إلى متى التمييز؟

قبل أربع سنوات، خاض مدحت القواس تجربة التقدم لوظيفة معاون النيابة العامة، خاصة أنه تخرج في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية بتقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف، وهو ما يزيد على المعدل التراكمي المطلوب لشغل الوظيفة، فضلًا عن استيفائه جميع الشروط، بما في ذلك التحريات الأمنية، وعدم وجود ما يعيق قبوله. ومع ذلك، لم يكن اسمه ضمن قائمة معاوني النيابة الذين شملهم القرار الجمهوري رقم 235 لسنة 2020 في يونيو من العام نفسه.

 

يقول مدحت لمنصة “MENA“، إنه رغم رفضه، فقد كان مستعدًا بالخطة البديلة، وهو نهج يتبعه معظم المتقدمين للوظائف القضائية من خريجي كليات الحقوق المصرية، باستثناء أبناء القضاة أو ذوي النفوذ وأصحاب الوساطات، إذ إن هؤلاء مضمون انضمامهم إلى السلك القضائي.

 

ويمر المتقدم بعدة مراحل، تبدأ بتقديم الملف الذي يتضمن العديد من المستندات، مثل شهادة الميلاد، وشهادة التخرج، وبيان التقديرات، وشهادة الموقف من التجنيد، بالإضافة إلى القيد العائلي، والصحيفة الجنائية للمتقدم. وهذه مستندات تُطلب عادة لأي وظيفة، لكن يُضاف إليها صورة الحيازة الزراعية للأسرة إذا كانت من ملاك الأراضي، إلى جانب الصحيفة الجنائية للأب، والقيد العائلي للجد من جهة الأب والجد من جهة الأم، وشهادة عمل الأب موضحًا بها صافي دخله إذا كان على قيد الحياة، فضلًا عن صورة بطاقة الرقم القومي للأب.

 

بحسب مدحت، فإن هذه المستندات تهدف إلى التحقق من المستوى المادي والاجتماعي للمتقدم وعائلته، بما يشمل الأعمام والأخوال، مع التأكد من خلو العائلة من المطلوبين أمنيًا أو من لديهم سوابق جنائية.

 

 

حكاية كشف الهيئة

 

ضمن إجراءات التقديم، يخضع المتقدم لما يُعرف بـ”المقابلة الشخصية” أو “كشف الهيئة”، حيث يمثل أمام لجنة تُعرف بـ”اللجنة السباعية”، التي تضم سبعة مستشارين: النائب العام، ورئيس مجلس القضاء الأعلى رئيس محكمة النقض، ورئيسي محكمتي استئناف الإسكندرية وطنطا، إضافة إلى أقدم ثلاثة مستشارين بمحكمة النقض. يعقب ذلك الاختبار النفسي، الذي يُعرض فيه المتقدم على طبيبين متخصصين في المخ والأعصاب، ثم تأتي مرحلة التحريات الأمنية، حيث يجري فحص التاريخ الجنائي والسياسي للمتقدم وأقاربه حتى الدرجة الثالثة.

 

بحسب القواس، فإن النسبة الأكبر من حالات الرفض تعود إلى نتائج المقابلة الشخصية، التي لا تخضع لأي معايير واضحة يمكن الاستناد إليها، ثم تأتي التحريات الأمنية كسبب ثانٍ، حيث يُحاسب المتقدم على أفعال وانتماءات دائرة واسعة من أقاربه، قد لا يكون التقى بهم من قبل. على سبيل المثال، شمل التحري عن حالة مدحت عمّه الذي لم يلتقِ به مطلقًا، نظرًا لسفره إلى الخارج قبل ولادته، فيما تم رفض زميل له بسبب وجود حكم بتبديد منقولات زوجية ضد خاله، رغم انقطاع علاقته به منذ أكثر من عشر سنوات.

 

في حالة مدحت، كان سبب الرفض الذي أُبلغ به هو “عدم اجتياز المقابلة الشخصية”، رغم أن المقابلة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، وضمت عددًا كبيرًا من المتقدمين، دون إتاحة الفرصة للجنة لاختبار أي مرشح بشكل حقيقي. هذا السبب كان هو ذاته الذي أُبلغ به معظم المتقدمين الذين لم يحالفهم الحظ في دفعته.

 

المستشار عدنان فنجري أبو جبل حسين

 

 

تعديلات تشريعية

 

قبل عام 2023، كانت تعيينات الهيئات القضائية خاضعة لقانون السلطة القضائية، ولا سيما المادتين 38 و116، اللتين تحددان شروط التعيين، ومنها أن يكون المتقدم مصري الجنسية، وألا يقل سنه عن 30 عامًا إذا كان التعيين في المحاكم الابتدائية، أما إذا كانت الوظيفة معاون نيابة، فيجب ألا يقل عمره عن 19 عامًا، وأن يكون حاصلًا على إجازة الحقوق من إحدى كليات الحقوق بجامعات جمهورية مصر العربية أو على شهادة أجنبية معادلة لها، مع اجتياز امتحان المعادلة في الحالة الأخيرة، وألا يكون قد صدر بحقه حكم في جريمة مخلة بالشرف، حتى لو كان قد رُدّ إليه اعتباره، وأن يكون محمود السيرة وحسن السمعة. وهي الشروط التي تنطبق على غالبية المرشحين.

 

بحسب القواس، يلجأ العديد من المرفوضين إلى المحكمة الإدارية العليا، التي تستجيب في بعض الحالات للطعون وتقرر إلغاء قرار الهيئة القضائية. وقد حدث ذلك في أواخر العام الماضي، عندما أيدت المحكمة حكمًا صادرًا لصالح أحد المتقدمين لوظيفة معاون نيابة إدارية بعد استبعاده. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يتكرر في جميع الحالات.

 

الزحف المقدس

 

توريث أبناء القضاة في المؤسسات القضائية لطالما كان الصداع المزمن في رأس المصريين، إذ يحكم ما يشبه القانون غير المكتوب تعيينات القضاة في مصر. وقد عبر العديد من ممثلي السلطة القضائية عن هذا الأمر في تصريحاتهم، وكان أبرزهم وزير العدل الأسبق أحمد الزند، الذي قال في تصريحات إعلامية: “تعيين أبناء القضاة سنة بسنة، ولن تكون هناك قوة في مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها”. كما قال في تصريحات أخرى: “من يهاجم أبناء القضاة هم الحاقدون والكارهون ممن يُرفض تعيينهم، وسيخيب آمالهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة مستمرًا”.

 

وقبل تصريحات الزند، جاءت تصريحات وزير العدل الأسبق محفوظ صابر، الذي قال: “ابن الزبال لا يصح أن يدخل سلك القضاء”. وهي التصريحات التي أطاحت به من منصبه.

 

وبحسب دراسة أجريت على قرارات تعيين معاوني النيابة، بلغت نسبة أبناء القضاة أو أفراد أسرهم نحو 26% من إجمالي التعيينات في الفترة ما بين 2012 وحتى 2021.

 

 

قواعد غير عادلة

 

يقول ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاة والمحامين، إن قواعد تعيين الهيئات القضائية في مصر بشكل عام غير عادلة، وتحتاج إلى تعديل قانون السلطة القضائية، الذي يحدد شروط وإجراءات تعيين العاملين في السلك القضائي، مشيرًا إلى أن هذه القواعد تبتعد كثيرًا عن المعايير الدولية المذكورة في مبادئ الأمم المتحدة الخاصة باستقلال القضاة، التي تنص صراحة على أن الكفاءة هي المعيار الوحيد لاختيار العاملين في القضاء.

 

مشوبة بالتمييز

 

ويضيف أمين لمنصة “MENA“، أن شروط اختيار وتعيين الهيئات القضائية في مصر ما زالت مشوبة بالتمييز، مما لا يحقق العدالة في تولي هذه المناصب، خاصة فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي للمتقدمين لشغل هذه الوظائف أو التحريات الأمنية، التي تمثل تدخلًا غير مقبول في عمل اللجنة المعنية باختيار العاملين بالسلك القضائي. كما أضيف إليها مؤخرًا شرط اجتياز التدريبات فيما يسمى الأكاديمية العسكرية كشرط للتعيين في المناصب القضائية، وهو ما وصفه بـ”الكارثة”.

 

وأوضح أمين أن حتى الشروط المنصوص عليها في قانون السلطة القضائية الخاصة بالتعيين في السلك القضائي لم يعد معمولًا بها، بل أضيفت إليها قيود أكثر انتهاكًا للمعايير الدولية. وأشار إلى أن هناك عرفًا مستقرًا منذ عقود يعد أحد مظاهر التمييز في اختيار القضاة، وهو إعطاء الأولوية لأبناء القضاة وأسرهم في التعيينات القضائية.

 

الكلية الحربية شرط جديد

 

في أبريل الماضي، أصدر الأمين العام لمجلس الوزراء كتابًا دوريًا كشف عن توجيه رئاسي لمجلس الوزراء بإصدار تعليمات تلزم مؤسسات الدولة بعدم تعيين أي موظف حكومي إلا بعد حصوله على دورة تأهيل داخل الكلية الحربية لمدة ستة أشهر، كشرط أساسي للتعيين، وهو الشرط الذي دخل حيز التنفيذ بالفعل، مما أثار جدلًا واسعًا داخل الأوساط القضائية.

 

وقال المستشار أحمد شهاوي، رئيس محكمة استئناف بالمحكمة الاقتصادية في مصر، في تعليق عبر مجموعة نادي القضاة على موقع فيسبوك: “قرار إلزام المتقدمين لشغل وظائف القضاء بالحصول على الدورة يمثل خطورة تثير العديد من المخاوف والانتقادات، لما قد يترتب عليه من آثار تمس الطابع المدني لمؤسسات العدالة واستقلاليتها. هذا القرار يعد تعديًا على طبيعة العمل القضائي، الذي يتطلب استقلالًا تامًا بعيدًا عن أي نفوذ عسكري. كما أن اشتراط الحصول على الدورة التأهيلية يشكل عائقًا أمام المؤهلين من الشباب الراغبين في الالتحاق بالسلك القضائي، خاصة في ظل الأعباء المالية والإدارية التي يفرضها. يضاف إلى ذلك أن هذا الشرط قد يُفسَّر على أنه محاولة لجني عوائد مالية للكلية الحربية، ما يحول الدورة إلى أداة للربح بدلًا من تطوير المهارات القضائية.”

 

وأضاف:”فرض اختبارات بدنية ونفسية كشرط للتعيين في وظائف قضائية يتعارض مع متطلبات المهنة، وقد يمثل تمييزًا ضد شرائح مثل النساء وأصحاب الاحتياجات الخاصة. علاوة على ذلك، فإن غياب الشفافية بشأن إجراءات الدورة، مثل تكاليفها ومعاييرها، يثير تساؤلات حول هذا القرار. هذا التوجه يشكل خطرًا على مبدأ استقلال القضاء وحياديته، الذي يعد أحد ركائز الديمقراطية وسيادة القانون، كما يقوض مبدأ تكافؤ الفرص، ويمنح المؤسسة العسكرية نفوذًا غير مبرر على السلطة القضائية، ما يتعارض مع الدستور ومبادئه. لذا، من الضروري إجراء مراجعة شاملة لضمان الحفاظ على استقلال القضاء وهيبته، مع احترام المبادئ الدستورية التي تؤكد على مدنية مؤسسات الدولة، وتجنب تحميل المتقدمين أعباء إضافية لا تساهم في تعزيز كفاءة العمل القضائي.”

 

 

السلطة التقديرية

 

ورغم أن المحكمة الإدارية العليا أنصفت في العديد من السوابق القانونية المتقدمين لشغل الوظائف القضائية، الذين تم رفضهم لأسباب تتعلق بالمكانة الاجتماعية أو عدم حصول أحد الوالدين على مؤهل عالٍ، فإنها في الوقت ذاته أقرت بالسلطة التقديرية للجنة القضائية المعنية باختيار المرشحين.

 

ففي 25 يناير 1987، أصدرت المحكمة، برئاسة المستشار يوسف شلبي، حكمًا أكدت فيه أن:

 

“التعيين في الوظائف القضائية شأن تختص به جهة الإدارة (المجلس الأعلى للهيئة القضائية) بمقتضى سلطتها التقديرية، لاختيار أفضل العناصر الصالحة لتولي هذه الوظائف، والنهوض بأمانة المسؤولية فيها، بالنظر إلى أهميتها وطبيعتها الخاصة. وطالما خلا استخدام السلطة التقديرية من عيب الانحراف، فلا يجوز للمحاكم التعقيب عليها.”

 

وفي 11 ديسمبر 2004، أصدرت المحكمة، برئاسة المستشار عبدالرحمن عزوز، حكمًا جاء فيه:

“الأهلية لتولي الوظائف القضائية هي حالة عامة تُستشف إما ببصيرة نافذة لدى مجموعة من المتمرسين عبر لقاء مركز مع المتقدمين وخلال فترة زمنية محدودة، أو برقابة تستمر لفترة ليست بالقصيرة يجريها المؤهلون لذلك من المتخصصين.”

 

وأكدت المحكمة أن:

“لجنة مقابلة المتقدمين لا تقيَّد بأي اختبارات سابقة تتعلق بالقدرات والعناصر الدالة على الأهلية أو أي ضوابط أخرى، بل تكون سلطتها في الاختيار تقديرية، لا يحدها إلا المصلحة العامة، وليس مسموحًا أن تحل المحكمة محل اللجنة في إعمال معايير معينة واستخلاص صفات الأهلية من المتقدمين.”

 

وما بين السلطة التقديرية للمجلس الأعلى للقضاء والمعايير الدولية لاختيار القضاة، يبقى خريجو كليات الحقوق في مصر، من غير أبناء القضاة، معلقين بين أمل الدخول إلى السلك القضائي، إما بالقبول المباشر أو بأحكام المحكمة الإدارية العليا، وبين معايير اختيار القضاة المتروكة للسلطة التقديرية.

 

اقرأ أيضًا:

 

“النقابات الثلاث” توقف التعامل مع “معامل الصف الأول”.. ما علاقة الإمارات؟

 

بعد إقالة السيسي 11 مستشارا رئاسيًّا.. قصة الرؤساء مع التعيين والإقالة

 

حظر ظهور القضاة في الإعلام والتصوير داخل المحاكم.. ما القصة؟

 

عمرو حمزاوي: الشعب الأمريكي يرفض التهجير والأوروبيون في “حيص بيص”.. وهذا خيار مصر | حوار

 

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية