أصدرت السلطات القضائية في مصر قرارًا بحظر ظهور قضاة محكمة الاستئناف عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بصفتهم الوظيفية، كما شددت على منع التصوير داخل جلسات المحاكمات. جاء القرار، الذي أصدره المستشار محمد نصر سيد، رئيس محكمة استئناف القاهرة وعضو مجلس القضاء الأعلى، بتاريخ 29 ديسمبر 2024 تحت رقم 247 لسنة 2024، بعد مراجعة قانون السلطة القضائية وقرارات مجلس القضاء الأعلى. ويهدف هذا الإجراء إلى الحفاظ على هيبة القضاء وضمان سير العدالة بعيدًا عن أي تأثيرات إعلامية أو تدخلات خارجية.
وفي هذا السياق، صرّح “رمضان محمد”، المحامي والباحث الحقوقي، بأن قرار منع ظهور القضاة في وسائل الإعلام يُترك لتقديرهم الشخصي، استنادًا إلى مدى تأثير ذلك على ضمانات الحياد والاستقلال التي يجب أن تتوافر في المؤسسة القضائية. وأوضح أن القاضي مطالب بالابتعاد عن أي مؤثرات قد تجعله يبدو منحازًا لأي طرف أو فكرة أو رأي سياسي أو اجتماعي، بما يضمن الحفاظ على نزاهة القضاء وصورة العدالة في المجتمع.
وتابع رمضان في تصريح لمنصة “MENA“، قائلاً إن القضاة، رغم مسؤوليتهم عن ضمان الحياد والاستقلال، يظلون بشرًا يعيشون في المجتمع ويتأثرون بأحداثه، ما يجعل لديهم اتجاهات وجدانية نابعة من واقعهم المحيط.
وفيما يتعلق بمنع تصوير الجلسات والمحاكمات، أوضح رمضان أن هناك جدلًا قانونيًا في هذا الشأن. فبينما اعتُبر هذا المنع في البداية مساسًا بضمانة دستورية مهمة، وهي علانية الجلسات، اتجهت أحكام محكمة النقض إلى التأكيد على أن العلانية لا تتعارض مع منع التصوير، طالما أن حضور الأفراد متاح دون تمييز، بما يضمن مراقبة الإجراءات القضائية بشكل عادل.
وأوضح أن القانون يمنح المحكمة سلطة تقديرية لإدارة الجلسة وحفظ النظام داخلها، وهو ما يتيح لها اتخاذ أي قرارات تراها ضرورية لضمان حسن سير الإجراءات.
وعن تأثير منع تصوير الجلسات والمحاكمات على الشفافية والنزاهة، أكد رمضان أن لهذا القرار تأثيرًا كبيرًا، إذ إن الدستور نصّ على ضمانة جوهرية لتعزيز ثقة الأفراد في عدالة المحاكم وسلامة إجراءاتها، وهي علانية الجلسات. وأوضح أن العلانية تعني تمكين أي شخص، دون تمييز، من حضور الجلسات ومراقبة ما يجري داخل قاعات المحاكم، بما يضمن الالتزام بالقانون وعدم الانحياز.
وأشار رمضان إلى أنه عند محاولة تحليل الأسباب السياسية للمنع، فإن ذلك يدخل في إطار التحليل السياسي الذي يفتقر إلى أدلة قاطعة، مما يجعل مناقشته أمرًا غير ممكن من الناحية القانونية. وأضاف أن القرارات الأخيرة والتعليمات الصادرة في العديد من المحاكم، التي تقصر حضور الجلسات على المحامين وذوي الشأن، وتمنع في بعض الأحيان حتى أهالي المتهمين من دخول قاعات المحاكم، قد تؤدي إلى إثارة شكوك لدى الأفراد حول سلامة إجراءات المحاكمات. وأوضح أن غياب القدرة على متابعة هذه الإجراءات، سواء من خلال الحضور الشخصي أو التغطية التلفزيونية والصحفية، يضعف ثقة الأفراد في نزاهة المحاكمات، ويزيد من الشعور بعدم الشفافية، لا سيما لدى أهالي المتهمين.
وأشار رمضان إلى أن هذه القرارات قد تؤثر أيضًا على إحساس القضاة أنفسهم، إذ إن غياب الرقابة الشعبية على إجراءاتهم قد يُضعف شعورهم بالمساءلة، ما قد يفتح الباب أمام احتمالات إساءة استخدام السلطة أو التعسف في اتخاذ القرارات.
وأضاف أن مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد يسعى إلى تقنين هذه الإجراءات بشكل رسمي، من خلال منح القضاة صلاحيات موسعة لاتخاذ مثل هذه القرارات، بحيث تصبح هذه الممارسات منصوصًا عليها قانونيًا، بدلاً من أن تكون مجرد قرارات إدارية تصدر من رؤساء المحاكم أو وزارة العدل.
وأوضح رمضان أن الأصل في منع دخول الجمهور إلى قاعات المحاكم كان يرتبط بخصوصية القضايا المنظورة، مثل القضايا المتعلقة بالانتهاكات الجنسية، حيث يمكن أن تؤدي علانية الجلسات إلى الإساءة لسمعة المجني عليه/عليها من خلال الكشف عن تفاصيل شخصية للغاية. وكذلك القضايا التي تتضمن معلومات تمس الأمن القومي، حيث تكون السرية ضرورية لحماية المصالح العليا للدولة. وأضاف أن مثل هذه القرارات كانت تُتخذ بشكل فردي وفقًا لطبيعة كل قضية على حدة.
ومع ذلك، أشار رمضان إلى أن الفترة الأخيرة شهدت توسعًا ملحوظًا في تطبيق هذه القرارات لأسباب أمنية، ما أدى إلى تعارض واضح مع مبدأ علانية الجلسات، الذي يُعد أحد أهم الضمانات الدستورية لضمان الشفافية والمساءلة في المحاكمات. وأكد أن هذا التوسع قد يُضعف ثقة المواطنين في نزاهة الإجراءات القضائية ويحد من قدرة الجمهور على مراقبة سير العدالة.
وفي السياق ذاته، قال “أحمد صابر”، مستشار وعضو مجلس إدارة نادي القضاة سابقًا، إنني أعتقد أن حرية التعبير مكفولة للجميع، والتواصل حق طبيعي للإنسان، والإنسان يحاسب على مضمون ما قاله، لكن لا يُمنع من القول إطلاقًا.
وأضاف صابر في تصريحات لمنصة “MENA“: “كل قرار أو قانون يتم إصداره سيظهر من يحاول إيجاد مبررات له بدعوى أنهم يسيئون التعبير ويضرون بصورة الهيئة، ويقولون كلامًا غير مسؤول، إلى آخره. وأنا أرى أن من يسيء للمؤسسة حقًا يستحق أن يُمنع، لكن لا يُطبق ذلك على الجميع. فربما من بينهم من يقول كلامًا مفيدًا. وأنا قد عشت في وقت كان يسمح لنا بالكلام وكنا نستغل أدوات الإعلام في تحقيق مصالح وطننا كما نرى. كنت أنتمي إلى تيار يسمى تيار استقلال القضاء، ومعنى الكلمة أن القضاء أصلاً في مصر كان غير مكتمل الاستقلال، وكنا نطالب باستقلاله.”
وواصل صابر: “كان من نتيجة مطالبنا أننا كنا نكسب يوميًا ضمانة جديدة، مثل حصانة منصب النائب العام وبعض أعضاء النيابة، وكانت الدولة تتدخل أحيانًا في أمور تخص القضاء، وكنا نطالب بميزانية مستقلة، وأشياء أخرى حققناها من خلال التحدث في الإعلام والتعبير عن القبول أو الرفض دون التعرض للمساءلة.”
ورأى صابر: “أن القضاء مهمش فعلاً في الوقت الحالي، والقوة الحقيقية للقضاء تستمد من ثقة الجمهور والعامة به، بل إن هناك أشياء تحدث وحدثت بالفعل تثير الدهشة والسخرية، مثل نصوص في القانون تقول إن المحاكمة علنية مثلًا، وعند المحاكمة يتم وضع الناس في صندوق زجاجي ولا يُسمع أصواتهم! فهذه أمور متناقضة. وكما أشرت، جزء كبير من قوة القضاء كان نابعًا من ثقة العامة به، فقد كان لنا الحرية في التحدث والتعبير والوقوف أمام دار القضاء العالي في زمن الرئيس السادات والرئيس حسني مبارك، وأيضًا كنا نحتج في زمن الرئيس عبد الناصر عن مذبحة القضاء التي حدثت عام 1969، وكنا نتلقى ردودًا. وتاريخ مصر سجل تلك المواقف. وفي زمن الخديوي إسماعيل، تظاهر القضاة تنديدًا بعدم تنفيذ حكم طلاق ولم يتراجعوا حتى تم تنفيذ الحكم.”
وقال “مالك عادلي”، محامي بالنقض والدستورية العليا ومدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: “إن هذا موضوع يُسأل فيه القضاة لأنهم هم الممنوعون من الإدلاء بأي تصريحات بموجب هذا القرار، وهذا شأن قضائي خاص بهم ولا يسعنا التعليق عليه لأننا غير مخاطبين بأحكامه، لكن أود التعليق على أن القانون يفرض على القضاة نوعًا من الحياد وعدم الاشتغال بالسياسة والتدخل في قضايا الرأي العام ومثل هذه الأمور، لأنه من المحتمل أن تواجهه فيما بعد كقضية ليحكم بها فلا يجب أن يبدي فيها رأيًا. وأعتقد أن هذا سبب القرار، لكنه صدر بشكل عام. كما أن أي موظف حكومي يظهر في الإعلام عليه أن يستأذن الجهة الحكومية التي ينتمي إليها، وهذا يطبق على أمناء الفتوى في الأزهر والأوقاف وغيرهم من الوزارات المختلفة.”
وتابع عدلي لمنصة “MENA“: “أن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل مشكلة كونها تحتوي على حسابات خاصة وأخرى عامة، فلا ندري هل ينعكس ذلك على حسابات القضاة الخاصة على فيسبوك وتويتر وغيرهم. وإذا أدلى أحد القضاة برأي ما في الشأن العام، فهذا سيخل بحياده. فعلى سبيل المثال، إذا تحدث أحد القضاة عن الحد الأدنى للأجور ثم أتته قضية تخص هذا الأمر، فلن يستطيع الفصل فيها. فهذا القانون ليس سيئًا بشكل مطلق، لكن عموميته سببت هذه الرهبة، والسادة المستشارين هم الأكثر اختصاصًا للإدلاء بسلبيات القرار.”
وقال “ياسر سعد”، المحامي العمالي لمنصة “MENA“: “إن القاضي هو مواطن مصري له كامل الحرية في التعبير عن رأيه في أي شيء، لكن يُمنع القضاة من إبداء الرأي في قضايا تنظر أمامهم أو قد تنظر أمامهم، لأن هذا هو الحائل القانوني الوحيد. ويطلق عليه حياة المواطن، من حق المتهم أو المدعى عليه أو المدعي أن يقول للمحكمة أن تتوقف عن إصدار قرارها لأنها سبق وأبدت رأيًا في الدعوى.”
وواصل: “هذا القانون يشير إلى أن هناك قضايا قد تمس الرأي العام، وأنا أؤيد هذا الكلام لأن القضية تخص أصحابها ولا تخص أهل القضاء. لكن التعبير عن الرأي في أي مناحي الحياة على أحد وسائل التواصل الاجتماعي هو أمر عادي وغير مخالف للدستور ولا يجب على أحد منعه.”
واختتم: “إن الوضع السياسي العام في مصر يتجه إلى تقييد الحقوق والحريات، وهذا القرار قيدٌ على السلطة القضائية ويعتبر انتهاكًا في حقها. وعلى السلطة القضائية أن تصل لقناعة أساسية أن أي انتهاك لحقوق الإنسان في مصر هو انتهاك ضدها، ولا يجوز أن تكون هي المشرفة عليه أو المسؤولة عن إصدار قوانين في هذه البنود.
اقرأ أيضًا:
هل تنجح “سياسات التعليم الجديدة” في القضاء على أزمة كثافة الفصول؟
تعيين نائبين لمدبولي حقائق يوضحها وزير شؤون المجالس النيابية
جدل حول قانون المسؤولية الطبية.. الأطباء تصعد وسط تضامن نقابي
“قانون الإجراءات الجنائية”.. ولادة متعسرة واعتراضات حقوقية ونقابية