فُرض التجنيد الإجباري في مصر لأول مرة في أوائل القرن التاسع عشر، خلال حكم محمد علي، الجندي الألباني الذي أُجبر على القتال في صفوف الدولة العثمانية قبل أن يعتلي عرش البلاد.
ومع مرور الأجيال، تحوّل التجنيد إلى ما يشبه الخدمة الوطنية، دين لا بد من سداده بالزمن والجسد، وضريبة تُدفع فقط لأنك وُلدت هنا. إنه “مصنع الرجال” كما يُطلق عليه، حيث تُصاغ الكرامة من رحم الإهانة، وتُولد الحرية من قلب العبودية.
في تقرير لموقع THE FINANCIAL TIMES عن تجربة مجند في الجيش المصري، يذكر أنه لطالما غاب الأرشيف البصري عن نظام التجنيد في مصر، باستثناء تلك الصور الشخصية الصغيرة بقياس 6×4 سم التي تُمنح للمجندين في نهاية خدمتهم، فالتصوير داخل المؤسسة العسكرية محظور قانونًا، ما يجعل مجرد التفكير فيه باعثًا على الخوف.
يروي الجندي محمود خطاب، في عام 2017، التحقتُ بالجيش وخدمت لمدة عام وشهرين، لطالما راودتني فكرة توثيق تجربة التجنيد، ومع مرور الوقت، تحديدًا بعد شهرين من بدء خدمتي، بدأت ألتقط صورًا بهاتفي المحمول خلسة، موثقًا تفاصيل يومية من حياتي العسكرية، حريصًا على ألا تُظهر الصور وجوه زملائي أو ما قد يعرّف بهم.
ولضمان تسلسل هرمي صارم ينتهي بجندي يطيع الأوامر دون نقاش، تعتمد الجيوش حول العالم على جانب في شخصياتنا قلّما يُستدعى في مجتمعات يغلب عليها الطابع الفردي وهو الإحساس العميق بالانتماء للجماعة.
فالولاء الفطري للمجموعة هو ما يدفع الجندي أحيانًا إلى التضحية دون تردد دفاعًا عنها، ومن أجل ترسيخ هذا الولاء، لا يُكتفى بمعاقبة من يرفض تنفيذ الأوامر أو يتردد، بل يُحمَّل زملاؤه أيضًا تبعات عصيانه، لتصبح الطاعة مسؤولية جماعية لا فردية.
ويقول خطاب، كان رفاق خدمتي يتساءلون دومًا عن سر إصراري على تولّي نوبات الحراسة الليلية بدلًا عنهم، لكنني كنت قد تعلّقت بتلك المشاهد، بتلك الليالي التي يكتمل فيها القمر وتغمر ضوءه الأرض كأنها حلم معلق في السماء.
صوت ذيول الجربوع وهي ترفرف فوق الرمل الناعم عند قفزاته الشبيهة بالكنغر، وظلال جسدي المرتسمة على الأرض تحت ضوء القمر، كل بقعة من الأرض تتحوّل في تلك اللحظات إلى قمر مؤقت، لقد كانت نوبات الحراسة طويلة، وحيدة، ومملة، لكنها كانت أيضًا ساحرة بطريقتها الخاصة.
سرعان ما أدركتُ لماذا أحب والدي صوت أم كلثوم. كانت تغني لرجال كثر جلسوا في صمت، يحدّقون في الفراغ، يحملون بندقية لا تخصهم. كانت كلماتها تتكرر مرارًا، كما لو أنها تعرف تمامًا الصحراء التي يقف فيها كل واحدٍ منا.
ويقول خطاب، حين بدأت أكتب وألتقط الصور من قلب التجربة، لم أقصد أن أصنع قصة للنشر، بل كنت أكتب لنفسي، كأنها مذكرات شخصية. لم أجرؤ حتى على اختيار عنوان لها، إذ كان الخوف من العواقب حاضرًا دائمًا، كل ما كنت أفعله، هو محاولة بسيطة للتمسّك بمن أكون شخص يحب الحياة، ويؤمن بجمالها رغم كل شيء.
قمت بنشر كتابي “الكلب جلس حيث افترقنا” بشكل مستقل في نهاية العام الماضي، كان لا بد من تهريبه من القاهرة إلى باريس، فالحصول على رقم الإيداع الدولي (ISBN) لم يكن أمرًا يسيرًا، إذ يُمنح وفقًا للموقع الجغرافي، وفي مصر تخضع هذه العملية لرقابة هيئة رقابية قد ترفض الطلبات إذا رأت فيها ما يُثير الجدل.
تُفحص الكتب بدقة لأي محتوى سياسي أو ديني أو مثير للجدل، لكنني كنت محظوظًا؛ إذ كنت قد سافرت لتوّي إلى سويسرا، فتمكنت من تسجيل الكتاب باستخدام عنواني الجديد هناك، متجاوزًا بذلك قيود الرقابة.
مع قرب انتهاء فترة خدمتي العسكرية، كنتُ أصطحب عنتر، الكلب، معي في جولات المشي برفقة زميلي في الخدمة، وفي إحدى تلك الليالي، فجأة توقف عنتر وجلس في وسط اللاشيء، وبدأ ينظف فروه كما لو كان يستعد للنوم هناك، رغم محاولاتنا المتكررة لاستدعائه، ظل مكانه ثابتًا.
في صباح اليوم التالي، وجدته نائمًا بهدوء قرب الباب. لكن تلك اللحظة تركت أثرًا عميقًا في نفسي؛ كانت وداعًا بليغًا لكلب عشق الصحراء ورفض الأوامر بقدر ما رفضتُها أنا.
رابط المصدر:
https://www.ft.com/content/b92a4c37-a9a9-4f78-94ec-df56457e3fb5