وفقًا للجنة حماية الصحفيين (CPJ)، قُتل ما لا يقل عن 165 صحفيًا فلسطينيًا منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في أكتوبر 2023، وفي الحقيقة، تشير اللجنة إلى أن العام الماضي كان الأشد فتكًا بالصحفيين حول العالم منذ أن بدأت في توثيق حالات الوفاة في صفوفهم عام 1992.
أشار موقع Bellingcat، أن التقاط لقطات جوية من غزة هو عمل محفوف بالمخاطر، وقد تمكن فريق Bellingcat، بالتعاون مع شركائهم في فوربيدن ستوريز، ولو موند، ودي تسايت، وديَر ستاندرد، وبيبر تريل ميديا، والصحفيين العرب للصحافة الاستقصائية (ARIJ)، وإذاعة RFI، من توثيق عدة حالات قُتل أو أُصيب فيها صحفيو الطائرات المسيّرة بعد فترة وجيزة من تصويرهم مشاهد جوية.
“مشروع غزة” هو تحقيق استقصائي مشترك، منسق من قبل فوربيدن ستوريز، ويضم أكثر من 40 صحفيًا يمثلون 12 وسيلة إعلامية مختلفة (منها Forbidden Stories (فوربيدن ستوريز)، Paper Trail Media (بيبر تريل ميديا)، RFI (إذاعة فرنسا الدولية)، Bellingcat (بيلينغكات)، Die Zeit (دي تسايت)، Le Monde (لو موند)، France 24 (فرانس 24)، ARIJ (الصحفيون العرب للصحافة الاستقصائية)، The Seventh Eye / Shakuf +972 Magazine (ذا سيفنث آي / شاكوف +972 ماغازين)، ZDF (القناة الثانية الألمانية)، Der Standard (ديَر ستاندرد).
وواصل هؤلاء الصحفيون العمل الذي بدأه زملاؤهم في غزة، ليكشفوا النقاب عن التهديدات والمعاناة التي يواجهها الصحفيون هناك في سعيهم لنقل الحقيقة.
أعلنت إسرائيل في وقت مبكر من الحرب أنها لا تستطيع ضمان سلامة الصحفيين في غزة، وفي المقابل، يُعرف عن حركة حماس استخدامها للطائرات المسيّرة لاستهداف مواقع قوات الجيش الإسرائيلي، كما تستخدم لقطات مصوّرة من هذه الطائرات في مقاطع دعائية.
وذكر موقع Bellingcat، أن الاتحاد الاستقصائي الذي أعد هذا التحقيق، تواصل مع قوات الدفاع الإسرائيلية للاستفسار عن الحالات المذكورة في هذا التقرير، ولطرح تساؤلات حول كيفية تحديدهم أن الطائرات المسيّرة كانت تمثل تهديدًا، وما هي قواعد الاشتباك الخاصة بالـIDF مع هذه الطائرات، وكيف يصنّفون الأفراد على أنهم “إرهابيون”. إلا أن قوات الدفاع الإسرائيلية لم تجب عن الأسئلة المتعلقة بالحالات الفردية، ولم تقدم أي تفاصيل إضافية بشأن الشخصين المذكورين في هذا التقرير، لكنها أكدت في المقابل أن الجيش الإسرائيلي يرفض تمامًا الادعاءات بوجود هجمات ممنهجة تستهدف الصحفيين.
وردّ الجيش الإسرائيلي قائلًا:
“لا يمكننا مناقشة التعليمات واللوائح العملياتية لأنها مصنفة وسرية، لكن كل عملية عسكرية أو ضربة جوية تتم وفقًا لتعليمات الجيش الإسرائيلي، التي تُلزم القادة بتطبيق القوانين الأساسية لقواعد النزاعات المسلحة.”
ومن ناحية أخرى لا يزال الحجم الكامل للدمار الذي خلفته الحرب في غزة بحاجة إلى تقييم ميداني شامل، وهو أمر لن يتحقق إلا بعد التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. لكن، وحتى يحين ذلك الوقت، كانت صور الأقمار الصناعية، إلى جانب اللقطات الجوية التي التقطها الصحفيون عبر الطائرات المسيّرة وغيرها من المواد المصورة، أداة حيوية لكشف حجم الدمار الهائل على الأرض.
على سبيل المثال، مقطع مصوّر بطائرة مسيّرة لا تتجاوز مدته دقيقة واحدة، نشرته وكالة الأنباء الفرنسية AFP في يناير من هذا العام بعد دخول أول مرحلة من الهدنة حيز التنفيذ، يكشف عن مشاهد صادمة لركام عشرات المنازل المدمرة في مدينة رفح؛ بعضها سُوّيت بالأرض تمامًا، بينما يظهر البعض الآخر وقد لحقت به أضرار جسيمة.
أما أحدث التقديرات الأولية لحجم الأضرار، والتي أعدها كل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، فتشير إلى أن قرابة 300 ألف منزل قد دُمر أو تعرض لأضرار جسيمة في جميع أنحاء غزة، بينما بات 95% من المستشفيات خارج الخدمة وغير قادرة على أداء مهامها.
ولمواصلة توثيق حجم الدمار الذي ألحقته الحرب بالبنية التحتية في غزة، يعمل فريق بيلينغكات وشركاؤه على مشاركة صور الأقمار الصناعية واستخدام تقنية متطورة تُعرف باسم النمذجة الثلاثية الأبعاد (Photogrammetry)، التي تتيح بناء نماذج دقيقة للمناطق التي قام الصحفيون بتوثيقها أو تلك التي لم يتمكنوا من الوصول إليها بسبب خطورة الأوضاع.
وأشار موقع Bellingcat، في 15 فبراير 2024، وبعد مرور نحو ستة أشهر على اندلاع الحرب، نشرت الأمم المتحدة مقطع فيديو قصير عبر وسائل التواصل الاجتماعي يظهر عشرات المباني المدمرة أو المتصدعة جزئيًا في مخيم الشاطئ للاجئين بمدينة غزة. يبدأ الفيديو بلقطة علوية بانورامية التُقطت بواسطة طائرة مسيّرة، تكشف عن أحياء كاملة سُوّيت بالأرض في هذا الحي المكتظ بالسكان.
على مدار أكثر من عام من الصراع، شهد مخيم الشاطئ للاجئين دمارًا واسع النطاق. كان هذا الحي ومحيطه من أوائل الأهداف التي استهدفتها العمليات البرية لقوات الجيش الإسرائيلي داخل غزة، حيث أعلنت القوات الإسرائيلية في منتصف نوفمبر 2023 أنها سيطرت بالكامل على المنطقة، معتبرة إياها “أحد المعاقل الرئيسية لحركة حماس”.
وفي فيديو آخر، حدده موقعه أحد المتطوعين في مشروع Geoconfirmed، تظهر الواجهة الساحلية للمخيم بعد عام وقد لحقتها أضرار جسيمة.
المخيم يجاور أيضًا موقعًا أثريًا في الجهة الشمالية، يُعتقد أنه تعرض للتلف بفعل العمليات البرية والغارات الجوية، وهو ما وثقته سابقًا بيلينغكات وفورينزك آركيتكتشر (Forensic Architecture).
الصور التي نشرتها الأونروا (UNRWA) التُقطت باستخدام طائرة مسيّرة على يد الصحفي الفلسطيني عبد الله الحاج، وبعد تسعة أيام فقط من نشر هذه اللقطات، عاد الحاج إلى نفس المنطقة لتصوير المزيد، لكنه تعرض لإصابة بالغة في غارة إسرائيلية أفقدته كلا ساقيه.
كان عبد الله الحاج قد وثّق بعدسته معاناة سكان غزة مرارًا، إذ شاركت الأونروا في وقت سابق من الشهر نفسه صورًا التقطها، بينما يضم أرشيف الصور والأفلام التابع للأونروا قرابة 300 صورة من أعماله، من بينها صور جوية التقطها منذ عام 2020.
سبق للحاج أن عمل كصحفي مصوّر مع صحيفة القدس الفلسطينية الصادرة من القدس، إلى جانب عمله مع وسائل إعلام أخرى.
وفي حديثه لشركاء موقع Bellingcat في Forbidden Stories، قال الحاج إنه شعر بمسؤولية صحفية تحمله للاستمرار في التوثيق رغم الحرب، لكنه كان يتخذ احتياطات عدة، من بينها التصوير فقط بعد انتهاء الاشتباكات، وعندما لا يكون هناك خطر مباشر في محيطه.
وفي اليوم الذي أصيب فيه، أوضح أنه لم يستخدم الطائرة المسيّرة سوى لخمس دقائق فقط، وكان قد انتهى من التصوير تقريبًا عندما استُهدف، وأخبر الحاج Forbidden Stories بأنه لم يكن يرتدي السترة الصحفية أثناء التصوير، لأنه شعر أن التعريف بنفسه كصحفي قد يعرضه لخطر أكبر.
وأشار موقع Bellingcat إلى أن قوات الجيش الإسرائيلي قد صرّحت سابقًا لصحيفة لو موند (Le Monde) بأنها “قضت عبر طائرة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي (IAF)” على “خلية إرهابية كانت تستخدم طائرة مسيّرة، وتشكل تهديدًا وشيكًا للقوات في منطقة الشاطئ”، ويبدو أن الضربة الجوية التي تحدثت عنها إسرائيل هي ذاتها التي ورد ذكرها في تقارير صحفية بتاريخ 25 فبراير.
لكن، وحتى اللحظة، لا يزال الغموض يكتنف موقع تلك القوات التي قالت قوات الدفاع الإسرائيلي إنها تعرضت للخطر في بيانها، ورغم أن التقارير أفادت بأن الجيش الإسرائيلي شنّ حملة مداهمات استمرت أسبوعين داخل مخيم الشاطئ للاجئين مطلع فبراير، إلا أن هذه الحملة كانت قد انتهت فعليًا بحلول 15 فبراير.
وبحسب صور الأقمار الصناعية SkySat من Planet Labs، ظهرت مركبات تابعة للجيش الإسرائيلي في وقت سابق من الشهر، تحديدًا في 8 فبراير، على بعد حوالي 2.5 كيلومتر من مخيم الشاطئ بالقرب من حرم الجامعة الإسلامية في غزة، لكنها اختفت في صور التُقطت في 14 فبراير. كما أظهرت صور ومقاطع فيديو أخرى أن القوات الإسرائيلية كانت متمركزة على طول طريق الرشيد جنوب المخيم بنحو 3.5 كيلومتر طوال شهر فبراير، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت لا تزال هناك أثناء تصوير عبد الله الحاج.
عقب الضربة الجوية التي أصابت الحاج، أظهرت صور الأقمار الصناعية من Planet Labs أن منزل عبد الله الحاج، الواقع جنوب مدينة غزة في حي الزيتون، قد دُمّر بالكامل، إذ كان المنزل لا يزال قائمًا في صور 24 فبراير، لكنه اختفى في صور 28 فبراير.
أشار فريق تحقيق Bellingcat أنه قد تواصل مع الجيش الإسرائيلي بشأن قضية الحاج، وطرح عليهم أسئلة تتعلق بماهية التهديد المباشر الذي مثّلته طائرته المسيّرة، ولماذا استُهدف، وما هي المعلومات التي كانت بحوزتهم عنه، لكن قوات الدفاع الإسرائيلية لم تقدم أي إجابات محددة حول هذه الحالة.
وفي حديثه لشركاء Bellingcat في Forbidden Stories، نفى الحاج بشدة الاتهامات التي وُجهت إليه بكونه جزءًا من “خلية إرهابية” أو تابعًا لحركة حماس، واصفًا هذه المزاعم بأنها “اتهامات زائفة ولا أساس لها”.
وأضاف الحاج أنه خضع للتفتيش من قبل القوات الإسرائيلية مرتين بعد إصابته: المرة الأولى أثناء وجوده في مستشفى الشفاء حيث نُقل للعلاج، والمرة الثانية عندما غادر قطاع غزة عبر حاجز نيتساريم متجهًا إلى قطر لتلقي العلاج. وقال في هذا السياق:
“لو كنت تابعًا لحماس، لما سمحوا لي بمغادرة غزة لتلقي العلاج في الخارج.”
ولمواصلة توثيق التغيرات المأساوية التي طرأت على مخيم الشاطئ بفعل الحرب، استخدم فريق بيلينغكات صورًا جوية التقطتها طائرات مسيّرة زودهم بها Forbidden Stories، لبناء نموذج ثلاثي الأبعاد (3D) للحالة الراهنة للمنطقة باستخدام تقنية الاستشعار التصويري (Photogrammetry)، وهي تقنية تقوم بإعادة بناء المجسمات ثلاثية الأبعاد من خلال تحليل الفروقات في المنظور بين عدة صور.
كما زود Forbidden Stories فريق Bellingcat بلقطات جوية لمخيم جباليا، الذي كان من أصعب المناطق على الصحفيين الوصول إليها في غزة، ليتم استخدامها في إنشاء نموذج ثلاثي الأبعاد إضافي يكشف عن حجم الدمار هناك.
يُعد الاستشعار التصويري (Photogrammetry) علم استخراج القياسات من الصور الفوتوغرافية، وهو في هذه الحالة يُستخدم لاستخلاص نماذج ثلاثية الأبعاد دقيقة وواسعة النطاق من مجموعة صور جوية التُقطت لقطاع غزة عبر طائرات مسيّرة.
قام فريق تحقيق (Bellingcat) بمعالجة النماذج ثلاثية الأبعاد الخاصة بمخيمي جباليا والشاطئ للاجئين باستخدام برنامج Agisoft Metashape، وتتكون عملية بناء النموذج ثلاثي الأبعاد من أربع مراحل رئيسية، قد تختلف تفاصيلها بحسب طبيعة المشروع.
في البداية، يتم الكشف عن المعالم المتطابقة بين الصور وربطها ببعضها البعض. ثم، باستخدام هذه المعالم، تُحسب مواقع الكاميرا بدقة من خلال تقنيات التثليث (Triangulation) بالاستعانة بخصائص الكاميرا (مثل الطول البؤري، حجم البكسل، تشوه العدسة)، ويتم تعديل هذه الحسابات باستمرار لزيادة دقة تحديد مواقع الكاميرات باستخدام تقنية ضبط حزمة الكتل (Bundle Block Adjustment).
بعد ذلك، تُنتج خرائط عمق لكل صورة باستخدام تقنية المطابقة المجسمة الكثيفة (Dense Stereo Matching)، والتي تقارن الصور المأخوذة من زوايا متقاربة لاكتشاف الفروقات الطفيفة الناتجة عن تغير المنظور (Parallax). تُستخدم هذه الخرائط لبناء شبكة ثلاثية الأبعاد (3D Mesh) تمثل نسخة دقيقة من المشهد الواقعي في غزة. وأخيرًا، يُعاد إسقاط الصور الأصلية للطائرة المسيّرة على هذه الشبكة، مع دمجها بسلاسة لتكوين نموذج ثلاثي الأبعاد واقعي ودقيق في أبعاده.
رغم أن تقنية الفوتوغراميتري توفر نتائج مبهرة، إلا أن لها بعض القيود. فالمناطق التي لا تراها الكاميرا، مثل داخل المباني المدمرة التي تحجبها الأسقف المنهارة، لا يمكن إعادة بنائها بدقة. كما أن اختلاف المسافة بين الكاميرا والعناصر المصورة يؤدي إلى تفاوت في مستوى التفاصيل داخل النموذج، إضافة إلى تفاوت عدد الصور الملتقطة لكل عنصر، فعلى سبيل المثال، الأزقة الضيقة في مخيم الشاطئ تظهر من زوايا محدودة في النماذج ثلاثية الأبعاد، ما يجعلها أقل وضوحًا مقارنة بمناطق أكثر انكشافًا، مثل ساحات مدارس الأونروا في مخيم جباليا.
يشير فريق تحقيق Bellingcat، أنه في الوقت الذي تكون فيه الصور الفضائية صعبة التفسير ومحدودة الدقة، تقدم النماذج ثلاثية الأبعاد الناتجة عن الفوتوغراميتري تجربة غامرة، تسمح للمشاهد بوضع نفسه داخل المشهد. هذه التقنية تفتح نافذة غير مسبوقة على معالم غزة بعد ما يقارب 18 شهرًا من الحرب، حيث تكشف عن مبانٍ تحولت إلى أنقاض، وفجوات ضخمة خلفتها الغارات الجوية، وآلاف الخيام التي تأوي النازحين.
وقد استُخدمت هذه التقنية في تحقيقات مفتوحة المصدر أخرى، أبرزها إعادة بناء مسرح دراما ماريوبول في أوكرانيا، الذي كان يُستخدم كمأوى للمدنيين قبل أن يُقصف من قبل القوات الروسية في 2022، إلى جانب تحقيقات عديدة أجرتها منظمة Forensic Architecture.
ضمن النماذج المعروضة في هذا التقرير، استطاع فريق تحقيق Bellingcat تحديد مواقع رئيسية، تشمل مدارس، ومنازل، ومناطق تعرضت للدمار جراء القتال.
قبل إصابة الصحفي عبد الله الحاج بنحو شهر في مخيم الشاطئ، لقي مصطفى ثريا وزميله حمزة الدحدوح حتفهما في غارة جوية إسرائيلية أثناء قيادتهما لسيارتهما جنوب قطاع غزة، عائدَين من تغطية صحفية في قرية النصر الواقعة شمال شرق رفح، وكان ثريا يعمل كصحفي فيديو حر، وتعاون سابقًا مع مؤسسات كبرى مثل الجزيرة، وكالة فرانس برس (AFP)، رويترز، وGetty Images. وقد استُشهد في 7 يناير 2024، بعد فترة قصيرة من تصويره لقطات بطائرة مسيّرة في المنطقة.
ووفقًا لما نشرته صحيفة واشنطن بوست، فقد وصل ثريا والدحدوح إلى الموقع نحو الساعة 10:30 صباحًا، إلا أن ضربة جوية أجبرتهما على مغادرة المنطقة. وبينما كانا يتبعان سيارة إسعاف على الطريق، تم استهداف سيارتهما في حوالي الساعة 11:10 صباحًا.
بدأ ثريا تغطيته النشطة للحرب منذ الأسابيع الأولى، حيث نشر عشرات المقاطع المصوّرة عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي. وفي العديد من تلك المقاطع، يظهر ثريا وهو يحمل جهاز التحكم بالطائرة المسيّرة، يصور نفسه أمام مشاهد الدمار، وفي بعض الأحيان كان يرتدي سترة الصحافة، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان يرتديها في يوم استهدافه.
آخر ما صوره ثريا قبل استشهاده كان موقع ضربة جوية إسرائيلية في منطقة ريفية جنوب غزة، تقع بين خان يونس شمالًا ورفح جنوبًا، رغم أن هذه المنطقة كانت إلى حد كبير بمنأى عن العمليات البرية الإسرائيلية، إلا أن صور الأقمار الصناعية تظهر أن الجيش الإسرائيلي قام بتجريف منطقة صغيرة من البيوت البلاستيكية الزراعية ضمن نطاق 1 كيلومتر من موقع الضربة خلال شهري يوليو وأغسطس 2024. وفي صور التُقطت في يناير 2025، لا تزال معظم المنطقة، بما فيها الدفيئات الزراعية، قائمة دون تغيير كبير.
في البداية، ادّعى الجيش الإسرائيلي أن استهداف سيارة ثريا والدحدوح في 7 يناير جاء ردًا على “نشاط لطائرة مسيّرة تشكل تهديدًا وشيكًا للقوات”، لكن لاحقًا، أصدرت إسرائيل تبريرًا إضافيًا قالت فيه إن الاستخبارات العسكرية أكدت أن الدحدوح ينتمي إلى حركة الجهاد الإسلامي، بينما ينتمي ثريا إلى حركة حماس — وهي مزاعم نفتها بشدة شبكة الجزيرة التي كانا يعملان معها، كما رفضتها أسرتا الصحفيين.
ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن صديق ثريا وزميله الصحفي شادي الطباطبي، أن ثريا كان قد عمل سابقًا لنحو خمس سنوات كمصور في وزارة الأوقاف التابعة لحكومة غزة. لكن لم يتم التحقق من توقيت انتهاء عمله هناك.
تحليل أجرته بيلينغكات أظهر أن أقرب نشاط مرئي محتمل للجيش الإسرائيلي كان على بُعد أكثر من 5 كيلومترات من موقع استهداف سيارة ثريا، وهو ما أكدته صور الأقمار الصناعية SkySat الملتقطة في يوم الضربة ذاته. حتى واشنطن بوست توصلت إلى نتيجة مماثلة، بعد تحليل نطاق أصغر، ولم تجد أي دليل على وجود قوات إسرائيلية أو معدات عسكرية في نطاق 2 كيلومتر من موقع التصوير.
وقد تمكنت الصحيفة من مراجعة اللقطات التي صورها ثريا بطائرته، ولم تظهر فيها أي جنود أو طائرات أو معدات عسكرية إسرائيلية، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يرد على الأسئلة الدقيقة التي وُجهت إليه من فريق تحقيق Bellingcat بشأن ظروف مقتل ثريا.
في حين أن المنطقة الريفية التي كان ثريا يصورها لا تزال إلى حد كبير على حالها، فإن مدينة رفح، التي كان هو وزميله عائدين إليها، تعرضت لدمار واسع النطاق. وحتى في ظل وقف إطلاق النار، لا تزال مهمة توثيق المشاهد الجوية بطائرات الدرون في الجنوب محفوفة بالمخاطر.
وقد نشرت وكالة AFP لقطات جوية بعد بدء المرحلة الأولى من الهدنة، لكنها كانت محدودة ولم تشمل سوى جزء صغير من رفح.
ولا تزال صور الأقمار الصناعية عالية الدقة الوسيلة الأوثق لتوثيق حجم الكارثة في المدينة. كانت بيلينغكات قد غطّت هذه المنطقة في تحقيق سابق نُشر في أغسطس 2024، لكن الدمار منذ ذلك الحين تصاعد، حيث تم تسوية أحياء بأكملها بالأرض، خاصة القريبة من الحدود.
وقد تم هدم مئات المباني في وسط رفح قرب السوق الكبير، وكذلك في حي الجنينة. أما المباني القليلة التي كانت لا تزال قائمة في حي تل السلطان والتي تم تحليلها في تحقيق أغسطس، فقد دُمّرت هي الأخرى بالكامل.
وتشارك بيلينغكات الآن صور الأقمار الصناعية الجديدة التي تم تحليلها بعد وقف إطلاق النار في 30 يناير 2025، إلى جانب الصور السابقة، لرسم صورة أوضح لما تبقى من رفح.
قبل دخول وقف إطلاق النار الأخير حيز التنفيذ، وثقت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) مقتل ما لا يقل عن ثلاثة صحفيين آخرين ممن يستخدمون الطائرات المسيّرة في غارات نفذها الجيش الإسرائيلي، دون توفر تفاصيل مفتوحة عن ملابسات وفاتهم.
من بين أصعب المناطق التي كان من المستحيل توثيقها قبل الهدنة، مخيم جباليا ومحيطه، أحد أكثر المناطق تضررًا في غزة. وخلال الهدنة، استطاع فريق (Bellingcat)، باستخدام لقطات جوية من Forbidden Stories، بناء نموذج فوتوغراميتري ثلاثي الأبعاد يكشف حجم الدمار في أحد الأحياء الأكثر تضررًا داخل جباليا.
في 15 مارس، هزت غارتان جويتان بيت لاهيا شمال غزة، وأسفرتا عن مقتل سبعة أشخاص على الأقل، بينهم الصحفي محمود سمير إسليم البسوس، الذي كان يعمل كصحفي درون، وقدمت أعماله لوسائل مثل رويترز والأناضول.
البسوس كان في مهمة إنسانية لتوثيق تحضيرات وجبة إفطار رمضانية لصالح مؤسسة الخير (Al-Khair Foundation) عندما تعرض للهجوم.
رويترز نعت البسوس قائلة:
“نشعر بحزن عميق لفقدان محمود البسوس، الذي وثق بعدسته معاناة غزة، واستُشهد أثناء أداء عمله.”
ورغم أن الجيش الإسرائيلي ادعى أن الغارات استهدفت “إرهابيين”، بما فيهم مشغلين لطائرات مسيّرة، إلا أن اسم وصورة البسوس لم يُدرجا ضمن قائمة الجيش. وبدلاً من ذلك، أُدرج اسم شخص آخر يحمل اسمًا مشابهًا وُصف بأنه “إرهابي يعمل تحت غطاء صحفي”، بينما نفت التحقيقات أي علاقة بين البسوس والشخص المذكور.
مؤسسة الخير أكدت أن فريقها كان يؤدي مهمة إنسانية بحتة، رافضة الاتهامات بوجود أي صلة مع جماعات مسلحة.
تحقيق Bellingcat أظهر أن الضربتين وقعتا بعيدًا عن أي نقاط عسكرية إسرائيلية، حيث كانت الأولى على بُعد 2 كيلومتر من الحدود، والثانية على بعد 3 كيلومترات، مما يضع علامات استفهام حول المزاعم بوجود تهديد وشيك.
أوضح موريس هيرش، المقدم الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي، أن تشغيل طائرة مسيّرة في مناطق قتال قد يعرض أصحابها للاستهداف، قائلاً: “إذا رأى جندي طائرة مسيّرة في ساحة المعركة، فمن الطبيعي افتراض أنها تابعة للعدو.”
لكن في المقابل، تحدث مايكل أوفر-زيف، جندي احتياط في الجيش، مع Forbidden Stories عن غياب واضح لقواعد الاشتباك خلال الحرب. قال: “لم أستلم أي وثيقة تحدد قواعد الاشتباك خلال خدمتي. وهذا يترك مساحة واسعة للتفسيرات الشخصية.”
وأضاف أن الأجواء في غرفة العمليات كانت واضحة: *”أي طائرة مسيّرة لا تخصنا، يتم استهدافها ومشغلها دون أي نقاش.”
عند سؤال الجيش الإسرائيلي عن سياسته في التعامل مع الدرون في غزة وكيف يميز بين المدنيين والعسكريين، امتنع الجيش عن تقديم أي تفاصيل محددة أو أدلة تدعم ضرباته، مكتفيًا بتأكيد التزامه بمبادئ التمييز والتناسب، ورغم تأكيده أن بعض الأهداف كانوا أعضاء في حماس، لم يقدم الجيش أي دليل لدعم هذا الادعاء.
واكتفى الجيش بالقول إن هذه الحالات “أُحيلت لآليات التحقيق المختصة”، دون تأكيد ما إذا كانت الحالات التي تناولها هذا التقرير ضمن تلك التحقيقات، أو توضيح طبيعة الآليات المستخدمة.
أكدت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) أن استخدام الطائرات المسيّرة لأغراض صحفية لا يزال اتجاهًا حديثًا نسبيًا في عالم الإعلام. وقالت دوجا داوود، منسقة برنامج المشرق في CPJ: “نشجع الصحفيين دائمًا على إجراء تقييمات خاصة للمخاطر بناءً على وضعهم وظروفهم، حالةً بحالة.”
وشددت داوود على مبدأ واضح: “لا يجب أن يُقتل الصحفي، ويجب أن يكون محميًا بموجب القانون الدولي.”
وأشارت لجنة حماية الصحفيين إلى أنها وثّقت بالفعل حالات قُتل فيها صحفيون أثناء استخدامهم للطائرات المسيّرة. بل وفي إحدى الحالات، أخبرهم صحفي أن طائرته المسيّرة تم تعطيلها أو السيطرة عليها عن بُعد.
وتابعت داوود: “هناك طرق أخرى للتعامل مع الطائرات المسيّرة حتى في مناطق النزاع أو قرب الجنود الإسرائيليين، دون الحاجة إلى قتل الصحفي.”
وبشأن مزاعم الجيش الإسرائيلي بأن بعض الصحفيين يُعتبرون مقاتلين، أوضحت داوود أنه في كثير من الحالات، مثل حالة مصطفى ثريا، لم تقدم إسرائيل أي دليل واضح يثبت هذه الاتهامات.
وأضافت: “تكررت هذه الادعاءات غير المثبتة من جانب إسرائيل، دون تقديم أي أدلة موثوقة. وحتى اليوم، وثّقت لجنة حماية الصحفيين العديد من الحالات دون أي دليل على أن أيًا من هؤلاء الصحفيين شارك في أنشطة عسكرية.”
واعتبرت أن محاولات تشويه سمعة الصحفيين وتجريمهم أثناء قيامهم بعملهم هي أمر “مشين وغير مسؤول”، لأنه يزيد من تعريضهم للخطر. وقالت: “استهداف الصحفيين عبر المعلومات المضللة يعرض حياتهم للخطر بشكل أكبر.”
قالت إيرين خان، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحرية الرأي والتعبير، إن غياب الصحفيين الغربيين عن غزة جعل الصحفيين الفلسطينيين المحليين هم الخط الأمامي لنقل الحقيقة.
وأضافت: “هؤلاء الصحفيون يضحّون بحياتهم ليقدموا لنا صورة أوضح عمّا يحدث في غزة، وليُفضح حجم الجرائم والانتهاكات.”
لكن، ومع استخدام الطائرات المسيّرة كأداة حديثة للتوثيق، تضاعف الخطر على هؤلاء الصحفيين.
أوضحت خان أن استخدام الطائرات المسيّرة لأغراض صحفية ليس مخالفًا للقانون الدولي، قائلة:
“القانون الإنساني الدولي لا يحظر استخدام الطائرات المسيّرة، لأنها من الأدوات المدنية التي قد تُستخدم لأغراض متعددة، بما في ذلك الأغراض العسكرية. لكن، كمدني، لا يُعتبر استخدامها أمرًا خاطئًا.”
وشددت على أن المسؤولية تقع على الأطراف المتحاربة سواء الجيش الإسرائيلي أو الفصائل المسلحة في غزة وذلك لضمان عدم استهداف المدنيين، بما في ذلك الصحفيين، إذا كان من الصعب التمييز بين الأهداف.
وأكدت: “القانون الدولي يميل بشدة لصالح حماية الصحفيين. وإذا كان هناك شك في طبيعة الهدف، تقع المسؤولية على الطرف العسكري لتأكيد هوية الهدف قبل استهدافه.”
وانتقدت خان المعايير التي يتبعها الجيش الإسرائيلي في التعامل مع هذه الحالات، قائلة:
“يبدو أن المعايير التي يطبقها الجيش الإسرائيلي أقل بكثير مما يُعرف بواجب التحري. هناك ميل واضح لدى الجيش لافتراض أن بعض الصحفيين لديهم علاقات مع حماس، وبالتالي اعتبارهم أهدافًا مشروعة.”
ودعت خان إلى ضرورة إجراء تحقيقات مستقلة في كل حالة يُقتل فيها صحفي، مؤكدة على أهمية محاسبة الجناة. وتساءلت:
“إذا كانت إسرائيل متأكدة أنها لم ترتكب أي أخطاء، فلماذا لا تسمح بفتح تحقيقات مستقلة حول هذه الحوادث؟”
واستشهدت بحالة واحدة فقط أعلن فيها الجيش الإسرائيلي نتائج تحقيق داخلي حول استهداف قافلة مساعدات لمنظمة World Central Kitchen، والتي أُرجعت إلى سوء تحديد الهوية، حيث تم فصل ضابطين وتوبيخ قائد لواء.
رغم كل هذه التحديات، لا يزال بعض الصحفيين الفلسطينيين يواصلون التوثيق بكاميراتهم وهواتفهم وطائراتهم المسيّرة، رغم التهديدات المستمرة. ومع انهيار الهدنة الأخيرة، يتوقع أن يتزايد الخطر على الصحفيين مجددًا، مما سيحد من قدرتنا على معرفة الحقائق الميدانية حول تأثير الصراع على الفلسطينيين في قطاع غزة.
رابط المصدر:
https://www.bellingcat.com/news/2025/03/27/gaza-israel-palestine-shot-killed-injured-destroyed-dangerous-drone-journalists-in-gaza/