تحليلات

مدينة ذكية على مجرى النيل.. هل يحتمل العطشُ المصري؟

في لحظة فارقة من عمر الاقتصاد المصري، وبينما تتعاظم التحديات المرتبطة بشحّ الموارد المائية، وضغط المديونية، وتراجع قدرة المواطن الشرائية، يطفو على السطح مشروع “جريان” كمبادرة تنموية شاملة تُثير جدلًا واسعًا، بين من يعتبرها حلمًا وطنيًا يليق بالجمهورية الجديدة، ومن يتوجس من كونها مشروعًا نخبويًا لا يخاطب احتياجات المواطن البسيط.

 

“جريان” ليست مجرد مشروع عمراني على أطراف العاصمة، بل رؤية متكاملة لإعادة توزيع التنمية جغرافيًا واجتماعيًا، عبر منظومة تضم الإسكان، والسياحة، والزراعة، وتسعى لتوسيع الرقعة المزروعة، وتوفير عشرات الآلاف من فرص العمل، وتحفيز عجلة الإنتاج المحلي. ومع ذلك، لا تزال هناك تساؤلات مشروعة تُطرح بإلحاح: ما مدى واقعية الاعتماد على مياه نهر النيل في ظل أزمة سد النهضة؟ وهل تُوجّه الاستثمارات إلى حيث يجب، في وقت يحتاج فيه ملايين المصريين إلى إعادة تأهيل شبكات الري ومشروعات الإسكان الاقتصادي؟

 

يؤكد الخبراء أن “جريان” ليست رفاهية، بل ضرورة تنموية تخضع لحسابات دقيقة في إدارة الموارد المائية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ودفع النمو الاقتصادي من قلب الجيزة إلى أطراف الدولة. غير أن نجاح هذا المشروع سيظل مرهونًا بقدرة الدولة على ضمان شموليته، وكفاءته، وعدالته التوزيعية.

 

نقلة نوعية نحو مدن المستقبل

 

الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، كان قد شهد مراسم توقيع عقد شراكة لإطلاق مدينة “جريان” بمحور الشيخ زايد، بداية يونيو الجاري، وذلك في تحالف استراتيجي غير مسبوق بين الدولة، ممثلة في “جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة”، وثلاث من كبرى شركات التطوير العقاري: “نيشنز أوف سكاي”، و”بالم هيلز”، و”ماونتن فيو”.

 

ويُعد هذا المشروع نموذجًا جديدًا في السوق العقارية المصرية، يجمع بين التطوير العمراني الذكي والاستدامة البيئية، وهو ما أكده رئيس الوزراء خلال الإطلاق باعتباره نقلة نوعية نحو مدن المستقبل، ومكونًا فاعلًا في استراتيجية الدولة للتنمية العمرانية المستدامة.

 

تمتد المدينة على مساحة 6.8 مليون متر مربع، وتضم أكثر من 20 ألف وحدة سكنية، إلى جانب منشآت تعليمية، وصحية، وسياحية، وخدمية، من بينها جامعات دولية، ومستشفى، ومدينة إعلامية، وفنادق، ومراكز تجارية. وتبلغ مساحة الأنشطة التجارية والخدمية حوالي مليون م²، فيما تشغل المسطحات المائية قرابة 20% من المساحة الإجمالية، والمساحات الخضراء نحو 30%.

 

تتميز “جريان” أيضًا بارتباطها المباشر بمشروع “الدلتا الجديدة” الزراعي، حيث يعبرها مجرى مائي رئيسي متفرع من نهر النيل (فرع رشيد)، يتراوح عرضه داخل المدينة بين 50 و240 مترًا، ويمر بمحور الشيخ زايد، ما يُعزز من تكاملها مع أهداف التوسع الزراعي وتوفير مصادر المياه المستدامة.

 

ويُعد هذا النموذج التشاركي بين الدولة والقطاع الخاص، كما أكد الحاضرون، مثالًا يُحتذى به في بناء مدن متكاملة تحقق التوازن بين التنمية الاقتصادية، وتحسين جودة الحياة، وجذب الاستثمارات الوطنية والدولية.

 

 

تحريك عجلة الاقتصاد

 

في هذا السياق، رفض الباحث الاقتصادي وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع، محمد محمود عبد الرحيم، النظرة التي تُصوّر مشروع “مدينة جريان” كمشروع موجّه للأغنياء فقط أو كمبادرة بعيدة عن احتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، مؤكدًا أن هذه الرؤية “غير دقيقة تمامًا، أو على الأقل ليست دقيقة بنسبة 100%”، على حدّ وصفه.

 

وأكد عبد الرحيم في تصريحات خاصة لمنصة “MENA“، أن تحريك عجلة الاقتصاد الكلي يتطلب إطلاق مشاريع ضخمة تخدم مختلف شرائح المجتمع، موضحًا أن المشاريع العقارية الكبرى – مثل مشروع جريان – تُسهم بشكل مباشر في تنشيط الاقتصاد من خلال تشغيل أيدٍ عاملة مصرية بالكامل، بداية من عامل النظافة مرورًا بالمهندس والمحاسب والمحامي، وحتى الخدمات التشغيلية لاحقًا.

 

وأضاف أن قطاع العقارات يُعد من أكثر القطاعات المؤثرة في الاقتصاد، لما له من روابط مباشرة مع عشرات الصناعات المساعدة، مثل مواد البناء، والنقل، واللوجستيات، والعمالة اليومية، والتشغيل، وهو ما يخلق تأثيرًا مضاعفًا على الناتج المحلي، ويُسهم في تحسين مؤشرات البطالة والتضخم، وزيادة فرص العمل، وهي الجوانب التي قد لا يراها البعض عند تقييم أثر المشروعات العقارية.

 

وأشار عبد الرحيم إلى أن مشروع “جريان” لا يمكن اعتباره حكوميًا بحتًا، بل هو قائم على شراكة استراتيجية بين الدولة والقطاع الخاص المصري، مؤكدًا أن نماذج الشراكة التي ظهرت مؤخرًا بين الطرفين تعكس توجهًا واضحًا نحو تنمية عمرانية مستدامة تقوم على أسس اقتصادية قوية.

 

موقع المشروع

 

وقال: “الموقع الاستراتيجي للمشروع في منطقة غرب القاهرة، بين 6 أكتوبر والشيخ زايد والجيزة، وعلى مقربة من مطار سفنكس الدولي، والمتحف المصري الكبير، والأهرامات، يجعله نقطة جذب استثمارية وسياحية من الطراز الأول، ويمنحه قدرة على توليد استثمارات مرافقة على المدى الطويل”.

 

وعن بعض الانتقادات المتعلقة بوجود مراسٍ لليخوت أو جزر صناعية ضمن المشروع، رأى عبد الرحيم أن هذه المرافق لا تعني بالضرورة أن المشروع لا يخدم الطبقة المتوسطة أو الفقيرة، بل العكس تمامًا: “من سيبني هذه المرافق؟ من سيشغلها ويؤمنها ويخدمها؟ بالتأكيد هم أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة، وبالتالي فإن المشروع يفتح أمامهم مسارات مهنية محترمة، ويضمن لهم دخلًا مستقرًا ضمن منظومة الاقتصاد الرسمي، بعيدًا عن العمل غير المنظم”، بحسب تعبيره.

 

وأوضح أن الشركات المُنفذة للمشروع هي شركات مصرية كبرى تعمل وفق معايير الاقتصاد المنظم، مما يعني أن العاملين في المشروع سيكونون مؤمّنًا عليهم ويحصلون على حقوقهم الوظيفية والمهنية كاملة، في مراحل الإنشاء والتشغيل على حد سواء، “نحن نتحدث عن آلاف فرص العمل، ومجتمع عمراني سيتطلب محلات، وخدمات، وأمن، وصيانة، وكل هذه المهام سيقوم بها مصريون من أبناء هذا الوطن”.

 

وفيما يخص ملف الإسكان الاجتماعي، أكد عبد الرحيم أن مصر تشهد تطورًا لافتًا في هذا المجال، من خلال مشاريع إسكان محدودي الدخل في مناطق مثل أكتوبر، وحدائق أكتوبر، وأكتوبر الجديدة، مشيرًا إلى أن مشروع الإسكان الاجتماعي تطور من حيث التصميم، والبناء، والتشطيب، وتحسنت معاييره بمرور الوقت، بما في ذلك المرافق العامة والمساحات الخضراء.

 

واختتم عبد الرحيم تصريحاته بالتأكيد على أن ضخ الاستثمارات في مشاريع كبرى مثل مدينة جريان هو أمر حتمي وضروري، بشرط أن تتنوع طبيعتها، وأن تخاطب مختلف الفئات الاجتماعية، وليس فئة واحدة فقط، مضيفًا: “نحن بحاجة إلى مشروعات عقارية وسياحية وعمرانية وزراعية تنعكس آثارها على الجميع، وتُعيد رسم الخريطة الاقتصادية والاجتماعية لمصر الحديثة”.

 

 

مخاوف من فقدان المياه

 

أكد الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، أن مشروع “الدلتا الجديدة” يعتمد بنسبة تصل إلى 90% على المياه السطحية، من بينها 10 ملايين متر مكعب يوميًا تُضخ من نهر النيل عبر قناة الدلتا الجديدة، بالإضافة إلى 6.5 ملايين متر مكعب يوميًا من مياه الصرف الزراعي المعالجة القادمة من محطة الحمام، فيما يتم الاعتماد جزئيًا على المياه الجوفية بنسبة لا تتجاوز 10%.

 

وأوضح شراقي، في تصريحات خاصة لمنصة “MENA”، أن نهر النيل يمكنه استيعاب الكميات المخصصة للمشروع، التي تخرج أصلًا من السد العالي، دون أن يشكل ذلك ضغطًا إضافيًا على الحصة المائية المخصصة لباقي القطاعات.

 

وفيما يتعلق بالبعد البيئي، لفت إلى أن القناة صُممت بالأساس لأغراض الري الزراعي، لكن استخدامها مؤخرًا ضمن المخطط السياحي والعمراني، خاصة بامتدادها داخل الأحياء السكنية، قد يؤدي إلى زيادة مساحة السطح المكشوف ومن ثم ارتفاع معدلات البخر وفقدان المياه، وهو ما يستوجب الحذر عند تنفيذ المخططات الجمالية للمشروع.

 

وأشار إلى أن المشروع يعتمد بالكامل على أنظمة ري حديثة مثل الرش والتنقيط والري المحوري، مع تبطين القنوات للحد من الفاقد الناتج عن التبخر أو التسرب، بما يدعم هدف التنمية الزراعية المستدامة.

 

وشدد شراقي على ضرورة وجود خطة لمعالجة مياه الصرف الصحي داخل المدينة الجديدة، لاستخدامها في ري المسطحات الخضراء والحدائق، بهدف تقليل الفاقد وضمان الاستخدام الأمثل للمياه.

 

توقيت المشروع

 

وعن توقيت تنفيذ المشروع، قال: “مصر بحاجة إلى كل قيراط زراعي، ومشروع الدلتا الجديدة يستهدف زراعة نحو 2.2 مليون فدان، وهو مشروع طموح ومتكامل، لكنه يتطلب تطبيق مفاهيم الاقتصاد الزراعي في كل مراحله لضمان نجاحه، خاصة في ظل التحديات المائية الراهنة”.

 

وردًا على سؤال حول ما إذا كان المشروع قد يؤثر على حصص مياه الشرب أو الزراعة في المحافظات الأخرى، أوضح أن ذلك يمكن تعويضه من خلال تحسين إدارة الموارد المائية في الأراضي الزراعية الحالية، خصوصًا في مناطق الوادي والدلتا، بما يسمح بتوفير المياه دون التأثير على الاحتياجات الأساسية.

 

مشروع واعد يدفع عجلة الاقتصاد

 

يرى الدكتور خالد الشافعي، الخبير الاقتصادي ورئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، أن مشروع “مدينة جريان” يُمثل نموذجًا استثماريًا متكاملًا، يمكنه إحداث تأثير إيجابي في الاقتصاد المصري إذا تم تنفيذه برؤية تنموية شاملة تتجاوز الأبعاد الربحية فقط.

 

مكونات المشروع

 

وقال الشافعي، في تصريحات خاصة لمنصة “MENA”، إن المشروع لا يقتصر على كونه عمرانيًا، بل يتضمن مكونات سياحية وزراعية وصناعية، ما يمنحه جدوى اقتصادية واجتماعية كبيرة، مشيرًا إلى أنه يضم وحدات سكنية، ومدنًا وقرى سياحية، ومرافق ترفيهية، وفنادق، إلى جانب مجمعات زراعية متكاملة، توفر فرص عمل وتعزز مساهمة القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي.

 

وأضاف أن أحد أبرز مكاسب المشروع يتمثل في توسيع الرقعة الزراعية، إذ ارتفعت نسبة استغلال الأراضي من 11% إلى 14%، وهو ما يعد إنجازًا في ظل ندرة الموارد، خاصة مع تنامي الحاجة إلى الأمن الغذائي.

 

وأشار الشافعي إلى أن المشروع يُلبي احتياجات شرائح متعددة من المواطنين، لا سيما البسطاء ومتوسطي الدخل، سواء من خلال طرح وحدات سكنية بأسعار مناسبة، أو بزيادة الإنتاج الزراعي بما يُسهم في تخفيف الضغط على السوق المحلي وتوفير سلع غذائية بأسعار مقبولة.

 

وحول جدوى المشروع على المدى البعيد، أوضح أن الأمر يتوقف على نطاق التنفيذ، قائلاً: “إذا اقتصر المشروع على إطار محدود، فسيكون تأثيره محصورًا على حدود مدينة جريان فقط، أما إذا كانت هناك رؤية استراتيجية شاملة، فسيكون له أثر اقتصادي واسع النطاق”.

 

ولفت إلى أن المساحة المخصصة للمشروع تُعد أحد أبرز نقاط القوة، حيث تمنح فرصًا مستقبلية للتوسع العمراني دون عقبات بيروقراطية أو الحاجة إلى تعديل المخطط العام، مستشهدًا بتجارب لمدن جديدة واجهت معوقات في التمدد بسبب ضيق المساحة الأصلية.

 

وفيما يتعلق بمدى استفادة الطبقات الاجتماعية كافة، أكد الشافعي أن أسعار الوحدات السكنية ستكون المؤشر الفاصل، قائلاً: “إذا كانت الوحدات في متناول الفئات المتوسطة والبسيطة، فإن المشروع يخدم الجميع، أما إذا وُجه إلى النخبة فقط، فستبقى الفجوة قائمة”.

 

وأشار إلى أن وجود مراكز لوجستية ومنطقة صناعية داخل المشروع يُعد إضافة نوعية مهمة، لكن النجاح الحقيقي يكمن في إتاحة هذه المرافق لخدمة المجتمع بالكامل، لا أن تُخصص لفئات معينة أو تُدار بمعزل عن الاحتياجات المحلية، حتى لا يتحول المشروع إلى جزيرة معزولة تخدم الربح فقط دون أثر إنتاجي فعلي.

 

بين الطموح والقلق المشروع

 

بين طموحات التوسع العمراني والاقتصادي، وتحديات الأمن المائي التي تُخيّم على المشهد المصري في ظل أزمة سد النهضة، يبرز مشروع “جريان” كخطوة جريئة تحمل في طياتها قدرًا من القلق المشروع، لا سيما في ما يتعلق باعتماد جزء من موارده على نهر النيل في توقيت حرج.

 

ورغم المخاوف من أن يشكل المشروع عبئًا إضافيًا على الموارد المائية، فإن البعض يرى فيه فرصة لإعادة رسم معادلة الاستغلال الذكي للمياه، خاصة إذا تم دمجه بفاعلية ضمن منظومة “الدلتا الجديدة”، والاستفادة من أنظمة الري الحديثة.

 

ووسط التحديات والتحفظات، يبقى الرهان على أن تُترجم هذه الخطط إلى واقع متوازن، يجمع بين الطموح والتخطيط المستدام، ليكون المشروع نموذجًا تنمويًا يُسهم في دعم الاقتصاد وتحسين جودة حياة المواطنين دون تحميل الموارد فوق طاقتها.

 

اقرأ أيضًا:

 

جدل لا يتوقف حول مصير أراضي طرح النيل

 

هل يتدخل الاتحاد الأفريقي في حل أزمة منابع النيل؟

 

“الدول النامية” تعيد العاصمة الإدارية للجدل من جديد | تحقيق

 

رؤية الدولة المصرية في انشاء مدن جديدة مثل العاصمة الادارية والعلمين والجلالة

 

 

منار بحيري
صحفية مصرية متهمة بالتحقيقات والتقارير المعمقة وعضو نقابة الصحفيين وحاصلة على ماجستير الإعلام في صحافة الذكاء الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية