بات قطع الأشجار في مصر خلال السنوات الماضية ظاهرة متكررة تصاحب مشروعات بناء وتطوير المرافق الخدمية، بشكل لا يراعي الوظيفة البيئية للأشجار والمساحات الخضراء خاصةً في المدن باعتبارها حلا بديهيًا منخفض التكلفة وفعالاً لعلاج مشاكل تلوث الهواء والضوضاء، وتوفير الظل في الشوارع، وتبريدها في ظل الزيادات القياسية لدرجات الحرارة في العقود الأخيرة.
وفي المدن وتحديدًا في القاهرة الكبرى صار قطع الأشجار في المساحات البينية للطرق وعلى جوانبها هو الإجراء الأوليّ لعمليات توسيع الشوارع لدواعي السيولة المرورية وتوفير مساحات وقوف السيارات.
حتى لا يزول الأخضر
ووفق دراسة أعدتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “حتى لا يزول الأخضر.. الأشجار والحدائق في مصر من منظور العدالة البيئية” فإن العلاقة الحسابية المبسطة التي استخدمت للاستفادة من الأمتار المعدودة في كل شارع من الرصيف وأشجاره لم ترتق إلى دراسة هندسية وتخطيط مُسبق يشمل أي أبعاد بيئية واجتماعية كان يمكن أن تتوصل معها لحلول جذرية لمشاكل الزحام التي لم ولن تحل على المدى الطويل بمعادلة حسابية لزيادة عدد الأمتار لصالح السيارات والمركبات على حساب المشاة .
وأوضحت الدراسة أن أشجار الريف لم تسلم كذلك من عمليات التطوير التي اقتلعت آلاف الأشجار على أقل تقدير أثناء تنفيذ مشروع الترع والمصارف دون الإعلان عن أي دراسات أثر بيئي لإزالة تلك الأشجار أو تحديد منهجية واضحة للإزالة وتخفيف عمليات القطع إلى أقصى درجة ممكنة.
وكشفت الدراسة أن أعمال التطوير التي تمت في منطقة مصر الجديدة مثل بناء الكباري وتوسعة الطرق تطلبت قطع أشجار وإزالة حوالي 90 فدانًا من المساحات الخضراء حتى ترافقت عمليات التطوير مع استغلال تجاري للمساحات تحت الكباري في كثير من الأحيان وتطوير عدد من المساحات الخضراء عن طريق تأجير أجزاء من الحدائق لإقامة مطاعم وكافيهات مثل قصر عابدين.
ووفق ذات الدراسة يصل نصيب الفرد من الأشجار في مصر إلى شجرة واحدة فقط وهى أقل نسبة مقارنة بدول شمال أفريقيا.
نصيب الفرد من المساحات الخضراء..39 سم في القاهرة و2سم في القليوبية وقنا ومطروح
وتشير النشرة السنوية لإحصاءات المرافق العامة على مستوى مجالس المدن والأحياء لعام 2020 والتي يُصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء٬ إلى أن إجمالي المساحات الخضراء والحدائق والمتنزهات بما في ذلك حدائق الحيوان والأسماك في 28 محافظة مصرية تصل إلى حوالي 17 ألف كيلو متر مربع ويبلغ متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء في المحافظات المصرية 17 سنتيمترات فقط من المساحات الخضراء وكان أكبر نصيب للفرد من المساحات الخضراء في محافظة جنوب سيناء بواقع 161 سنتيمترًا بينما وصل نصيب الفرد إلى سنتيمترين فقط في محافظات القليوبية والغربية وقنا والفيوم ومطروح. في حين بلغ متوسط نصيب الفرد في المحافظات الحضرية وهى القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد حوالي 39 سنتيمترًا من المساحات الخضراء كما بلغ متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء في الدلتا وصعيد مصر والمحافظات الحدودية 15.5 ، و10.7 و66.6 سنتيمترات على الترتيب .
تراجع المساحات الخضراء بواقع 910 آلاف متر في 3 أعوام والعاصمة أقل من الحد الأدنى العالمي
في ثلاث سنوات فقط من عام 2017 وحتى 2020، تراجعت المساحات الخضراء في العاصمة المصرية بنحو 910 آلاف متر مربع من 7.8 مليون متر مربع في 2017 إلى 6.9 مليون متر مربع في عام 2020، وذلك بحسب بيانات صادرة عن مركز حلول للسياسات البديلة التابع للجامعة الأمريكية في القاهرة.
ومع زيادة عدد سكانها، انخفضت الحصة الفردية للمساحات الخضراء في العاصمة المصرية من 0.87 إلى 0.74 متر مربع، وهو أقل من الحد الأدنى لمعيار منظمة الصحة العالمية بمقدار 8.26 أمتار مربعة، وفقاً لتلك البيانات .
أكثر الأحياء القاهرية تضررًا
تتكون محافظة القاهرة من 37 حياً سكنياً، وكانت أكبر خسارة للمساحات الخضراء في حيّ مصر الجديدة وشرق مدينة نصر؛ إذ خسر الأول 272.2 متر مربع من مساحته الخضراء بين عامي 2017 و2020، بينما خسر شرق مدينة نصر 311.2 متر مربع خلال تلك الفترة.
لا تُعاني القاهرة فحسب من مشكلة تناقص المساحات الخضراء، ولكن أيضاً من سوء توزيعها، ففي عام 2020، كان نصيب الفرد في 22 منطقة في العاصمة المصرية -حيث يعيش 66 في المئة من السكان- أقل من 0.50 متر مربع من المساحات الخضراء.
مصر التاسع عالميًا في الدول الأكثر تلوثًا للهواء والقاهرة أكثر مدنها
واحتلت مصر الترتيب التاسع عالمياً في قائمة الدول الأكثر تلوثاً للهواء في عام 2022، وجاءت القاهرة في المركز الأول كأكثر مدن مصر تلوثاً بحسب موقع أي كيو آير.
ويعتمد التصنيف على معيار نسبة وجود جسيمات (بي إم 2.5) في الهواء، وهي عبارة عن جسيمات دقيقة يبلغ قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر، وهي وحدة طول تساوي جزءاً من الألف من المليمتر .
انتقاد برلماني
انتقد البرلماني السابق محمد أبو حامد، عبر حسابه على «إكس» عملية قطع الأشجار من دون محاسبة. واتهم متابعون مشروع تبطين الترع بالتسبب في قطع الكثير من الأشجار المُعمرة التي كانت تُزين الريف المصري .
وفي المقابل، نشرت جهات حكومية عدة، من بينها وزارات البيئة، والإسكان، والتنمية المحلية، بيانات رسمية تتضمن تأكيدات باهتمام الدولة بالمساحات الخضراء، سواء في العمران القائم أو المدن الجديدة، ومنها مدينة المنصورة الجديدة التي أكدت «الإسكان» أن نسبة المساحات الخضراء بها تصل إلى 25 في المائة من مساحة المدينة.
وقالت وزارة البيئة، في بيان لها، إن العمل جارٍ على تنفيذ المبادرة الرئاسية 100 مليون شجرة، التي تستهدف زراعة 100 مليون شجرة في غضون 7 سنوات، مع استهداف زراعة 1.5 مليون شجرة خلال العام المالي الذي ينتهي الشهر الحالي، مشيرة إلى أن العام الأول من المبادرة شهد زراعة 1.4 مليون شجرة.
وقال رئيس الإدارة المركزية للتشجير بوزارة البيئة المصرية، أحمد عباس، إن وزارته تحاول زراعة أضعاف عدد الأشجار التي يتم إزالتها لتحقيق التوازن البيئي.
وأضاف عباس في تصريحات لمنصة CNN الاقتصادية أن وزارة البيئة زرعت نحو مليون و300 ألف شجرة في المحافظات المصرية المختلفة خلال العام الماضي تحت مظلة المبادرة الرئاسية للتشجير.
مبادرة رئاسية للتشجير
في محاولة للتخفيف من حدة هذه الانتقادات، أطلقت السلطات في أغسطس/آب 2022، وفق موقع هيئة المصرية العامة الاستعلامات المبادرة الرئاسية للتشجير التي تستهدف زراعة 100 مليون شجرة خلال سبع سنوات، بتكلفة تصل إلى ثلاثة مليارات جنيه.
وتهدف المبادرة إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنحو 61.2 مليون طن سنوياً، تعادل 20 في المئة من إجمالي الانبعاثات السنوية الحالية لمصر، فضلاً عن تحسين نوعية الهواء، بحسب تقرير صادر عن مجلس الوزراء المصري (2).
وقال رئيس الإدارة المركزية للتشجير بوزارة البيئة، أحمد عباس، إن وزارته مسؤولة عن زراعة 13 مليون شجرة خلال سنوات المبادرة السبع، بينما تستحوذ وزارة التنمية المحلية على النصيب الأكبر في هذه المبادرة بزراعة 80 مليون شجرة، وتسهم هيئة المجتمعات العمرانية بزراعة سبعة ملايين شجرة.
وبحسب التقرير الصادر عن مجلس الوزراء المصري، تستحوذ مدينة القاهرة على النصيب الأكبر من الأشجار المزروعة في العام المالي (2022- 2023) بنحو 1.9 مليون شجرة.
وقال سمير طنطاوي، استشاري التغيرات المناخية بالأمم المتحدة وعضو الهيئة الدولية لتغير المناخ، إن عمليات التشجير تسهم في خفض درجة الحرارة بشكلٍ كبير خاصة في موسم الصيف بنحو ست إلى سبع درجات نتيجة الظلال التي توفرها أوراق الأشجار.
كما أكدت الدكتورة ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة أن وزارة البيئة أطلقت العديد من المبادرات الخضراء خلال السنوات الماضية، تم دمجها في السياسات والخطط التنموية الوطنية، بالتعاون مع أجهزة الدولة المعنية ومنظمات المجتمع المدني.
وأعربت الوزيرة عن قلقها من تزايد ظاهرة الاعتداء على الأشجار، مؤكدة ضرورة تكاتف الجهود للحفاظ على المساحات الخضراء، لما لها من فوائد بيئية وصحية واقتصادية.
وأوضحت الوزيرة خلال الجلسة الأولى للحوار الوطني حول مبادرة الـ 100 مليون شجرة، برئاسة الدكتور علي أبو سنة رئيس جهاز شئون البيئة، ووزيرة البيئة الدكتورة ياسمين فؤاد، بحضور نخبة من الخبراء والمسؤولين، أن الحوار الوطني يهدف إلى تعزيز وتسريع تنفيذ مبادرة الـ 100 مليون شجرة، التي أطلقها الرئيس السيسي، في إطار جهود الدولة المصرية للتصدي لتغير المناخ ومكافحة التصحر.
التوصيات العالمية بشأن المساحات الخضراء
تنص المعدلات العالمية على الحاجة إلى توفير ثلاثة آلاف متر مربع من المساحات الخضراء لكل خمسة آلاف نسمة يوجدون داخل حي واحد، وبتطبيق المعدل المذكور على عدد سكان مصر البالغ 104 ملايين نسمة حالياً داخل الدولة، نحتاج إلى أن يكون متوافراً لدينا نحو 62 مليون متر مربع من الحدائق والمتنزهات، بينها 15 مليون متر مربع داخل القاهرة الكبرى. .
وتنص المادة 45 من الدستور المصري على أن “الدولة تكفل حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر”، وتجرم المادة 367 من قانون العقوبات قطع النباتات والأشجار.
أبرزها الميرلاند.. ضحايا الاعتداء على المساحات الخضراء
في تقرير نشرته مؤسسة تومسون رويترز قبيل مؤتمر الأمم المتحدة، كشفت مبادرة تراث مصر الجديدة، وهي مجموعة تأسست عام 2011 للحفاظ على التراث المحلي، أنه “في منطقة مصر الجديدة بشرق القاهرة وحدها، تم قطع حوالي 2500 شجرة بين عامي 2019 و2020 كجزء من أعمال توسيع الطرق”.
وتم تجريف حوالي 10,000 متر مربع من حديثة الميريلاند التي يعود تاريخها إلى قرون مضت، من أجل إنشاء نصب تذكاري لإحياء ذكرى مشاريع بناء الطرق والجسور في القاهرة، وفقا لـ”تومسون رويترز”.
وذلك في الوقت الذي تؤكد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن الدستور المصري وقانون البيئة يجرمان التعدي على المساحات الخضراء .
وأشارت دراسة إلى أن تقلص المساحات الخضراء في مصر بهذه المعدلات ينذر بأزمة على المستوى الوطني.