“هل يمكنكم مساعدتي في رؤية ما تبقى من منزلنا؟”
“هل يمكنكم مساعدتي في الحصول على صورة حديثة لمنطقتنا السكنية في تل السلطان لمعرفة حالة منازلنا؟”
بهذه الكلمات المؤلمة، عبر أحد سكان غزة عن قلقه عبر منصة “إكس” (المعروفة سابقًا بتويتر)، مشيرًا إلى منطقة تل السلطان الواقعة على أطراف مدينة رفح جنوب القطاع.
مثل هذه النداءات أصبحت مألوفة للباحثين في المصادر المفتوحة، الذين يعملون على توثيق الغزو الإسرائيلي المستمر منذ عشرة أشهر. مناشدات النازحين الذين اضطروا لمغادرة منازلهم تعكس حجم الكارثة الإنسانية، حيث باتت الأقمار الصناعية والمصادر المفتوحة الوسيلة الوحيدة للكشف عن مصير المناطق السكنية المدمرة.
أشار موقع Bellingcat، أنه يواجه الباحثون في مجال المصادر المفتوحة صعوبات كبيرة في التحقق من هوية الأشخاص الذين يرسلون طلبات المساعدة أو المعلومات. يعود ذلك إلى منع إسرائيل دخول الصحافة الأجنبية إلى غزة، ما يعزل القطاع بشكل شبه كامل عن التغطية الميدانية المستقلة. هذا المنع يجعل التحقق من صحة الروايات أو الصور أمراً بالغ التعقيد.
على الجانب الآخر، يلجأ العديد من سكان غزة الذين يحاولون التواصل عبر الإنترنت إلى اتخاذ تدابير لإخفاء هوياتهم الحقيقية، خاصة إذا تضمن حديثهم انتقادات أو تعبيراً عن استياء تجاه حركة حماس. هذه الاحتياطات تعكس خوفاً من عواقب محتملة، لكنها تضيف طبقة إضافية من التحدي أمام الباحثين الذين يحاولون توثيق الحقائق في ظل هذا الصراع المعقد.
كانت هذه القضية جزءًا من مراقبة أوسع قام بها موقع “Bellingcat” لعدة أسابيع. في مايو 2024، اجتاحت قوات الدفاع الإسرائيلية رفح لتأمين السيطرة على الحدود بين غزة ومصر في ما يُعرف بـ”ممر فيلادلفيا”، وهو شريط يمتد لمسافة 8 أميال. أظهرت صور حديثة من الأقمار الصناعية، وفرتها شركة”Planet Labs PBC”، تدميرًا هائلًا ليس فقط على طول هذا الممر، بل أيضًا في الأحياء الواقعة على بعد كيلومترين من الحدود، مثل شرق تل السلطان.
وفقاً لتحليل موقع “Bellingcat” باستخدام بيانات من “OpenStreetMap”، كان حي شرق تل السلطان يضم حوالي 670 مبنى. ومع ذلك، تُظهر أحدث البيانات أن 224 مبنى فقط لا تزال قائمة، ما يعني أن أكثر من ثلثي المباني قد دُمرت بالكامل.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية التاريخية من “Google Earth” أن هذا الحي السكني، الذي شُيّد قبل أكثر من عقد، كان يعج بالحياة قبل أن يبدأ الدمار بين 18 يوليو و4 أغسطس 2024، بالتزامن مع التوغل الإسرائيلي في المنطقة. من بين هذه المباني المدمرة، كان المنزل الذي أشار إليه الشخص الذي تواصل عبر منصة “إكس” ضمن قائمة الضحايا، مما يعكس حجم المأساة التي عاشها سكان المنطقة.
وأوضح موقع Bellingcat، في مايو الماضي، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن حدد “خطًا أحمر” لإسرائيل خلال مقابلة مع شبكة”CNN”، محذرًا من تنفيذ عمليات عسكرية كبيرة في مراكز السكان مثل تل السلطان. وأوضح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن هذا التحذير يشير تحديدًا إلى عمليات عسكرية واسعة النطاق، ورغم ذلك، لم ترد وزارة الخارجية الأمريكية على استفسارات “Bellingcat” حول ما إذا كانت إسرائيل قد تجاوزت هذا الخط الأحمر.
في مايو الماضي، أعلنت قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF) أنها فرضت “سيطرة عملياتية” على ممر فيلادلفيا، الشريط الحدودي الذي يفصل بين قطاع غزة ومصر. وأظهرت صور الأقمار الصناعية الحديثة استمرار التواجد العسكري الإسرائيلي في المنطقة، مع إشارات واضحة إلى تدمير واسع امتد ليشمل أجزاء كبيرة من رفح منذ بدء العمليات البرية.
بحسب تحقيق أجراه موقع Bellingcat باستخدام أداة تتبع الأضرار التي طورها الباحث “Ollie Ballinger“، تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 8,500 مبنى في جنوب غزة قد تضررت أو دمرت بالكامل بين أكتوبر 2023 ويوليو 2024. ومع ظهور صور جديدة من الأقمار الصناعية في أغسطس، يتوقع أن تكون الأرقام الحقيقية أكبر بكثير، مما يعكس تصعيداً غير مسبوق في حجم الدمار الذي طال البنية التحتية والمناطق السكنية.
تشير تقارير عسكرية إلى أن إسرائيل تخطط لتوسيع ممر فيلادلفيا بعمق يصل إلى 800 متر داخل جنوب غزة، وهي خطوة يُتوقع أن تُحدث دماراً واسعاً قد يطال معظم مدينة رفح. هذا التوسع، كما أوضحت قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF)، يهدف إلى تحسين البنية التحتية لتسهيل حركة المركبات العسكرية والمصفحة، والحد من الحوادث التي يمكن أن تعرقل العمليات العسكرية.
ووفقاً لتصريحات الجيش الإسرائيلي، فإن الهدف من هذا الإجراء هو تعزيز القدرات التشغيلية للقوات وحماية أرواح الجنود والمدنيين على حد سواء. ومع ذلك، فإن هذا المخطط قد يؤدي إلى تدمير عدد أكبر من المنازل والبنية التحتية، مما يزيد من معاناة سكان رفح، الذين يعيشون بالفعل في ظل أوضاع إنسانية صعبة نتيجة النزاع المستمر.
كشفت صور الأقمار الصناعية عن دمار واسع النطاق ألحقته قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF) بالمناطق السكنية الواقعة على طول ممر فيلادلفيا. وشمل هذا الدمار أحياء بأكملها، أبرزها مخيم البرازيل للاجئين وحي السلام، حيث تم تسويتها بالأرض خلال العمليات العسكرية.
هذا النمط من الدمار ليس جديداً، إذ وثّقت تقارير سابقة حدوث عمليات مشابهة في مناطق أخرى من قطاع غزة خلال سنوات النزاع السابقة. ومع توسع العمليات الإسرائيلية في رفح، يبدو أن تدمير المناطق السكنية والبنية التحتية بات جزءاً رئيسياً من استراتيجيات السيطرة العسكرية في المنطقة، مما يضاعف من معاناة المدنيين الذين يواجهون أزمة إنسانية غير مسبوقة.
بحسب تحقيق موقع Bellingcat، كانت القرية السويدية، الواقعة على الساحل بالقرب من الحدود مع مصر، موطناً لتجمع سكاني صغير يضم حوالي 1,300 نسمة. قبل الحرب، عانت القرية من نقص حاد في الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى مشكلات تآكل الساحل التي هددت وجودها.
ومع ذلك، أظهرت صور الأقمار الصناعية الملتقطة بين 5 و7 يونيو أن معظم القرية تعرضت للتدمير الكامل خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية. وفي وقت لاحق، كشفت صور أخرى بتاريخ 22 أغسطس عن إنشاء طريق جديد ومنطقة تجهيز عسكرية أقامتها قوات الدفاع الإسرائيلية بالقرب من الساحل.
تمثل هذه القرية مثالاً واضحاً على مدى تأثير العمليات العسكرية على المناطق السكنية الصغيرة والهشة، حيث تحولت حياة مئات العائلات إلى أنقاض، بينما تتواصل الجهود الإسرائيلية لتعزيز البنية التحتية العسكرية في المناطق المحيطة.
زعمت قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF) أن بعض المناطق التي تعرضت للتدمير، بما في ذلك أجزاء من القرية السويدية والمناطق المجاورة، كانت تُستخدم من قبل حماس لأغراض “إرهابية”. ووفقاً لتصريحات الجيش الإسرائيلي، استغلت المقاتلون هذه المناطق كقواعد لتنفيذ هجمات على القوات الإسرائيلية.
في يوليو، أظهرت لقطات فيديو نشرتها كتائب القسام استهداف مركبات إسرائيلية عند مجموعة من المباني الواقعة قرب تل زروب، وهو موقع استراتيجي على الحدود بين غزة ومصر. وأكد تحليل صور الأقمار الصناعية أن تلك المباني قد تم تدميرها في الفترة بين 6 و17 يوليو، مما يعزز الروايات حول استخدامها كمواقع عمليات عسكرية.
هذه الادعاءات تعكس التعقيد الميداني للصراع، حيث تتداخل الأهداف العسكرية مع المناطق السكنية، ما يؤدي إلى دمار واسع النطاق وزيادة المعاناة الإنسانية.
ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها رفح موجة من التدمير الجماعي. قبل 20 عامًا، وثّقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” عمليات هدم واسعة النطاق نفذتها إسرائيل على طول الحدود مع غزة، ما تسبب آنذاك في تشريد أكثر من 16,000 شخص بعد فقدانهم لمنازلهم.
أشار موقع Bellingcat، في تعليقها على الوضع الحالي، قالت نادية هاردمن، الباحثة في “هيومن رايتس ووتش”، إن مستوى الدمار يجعل من المستحيل عملياً عودة السكان إلى منازلهم.
وأوضحت قائلة: “القانون الإنساني الدولي يمنع التهجير القسري للسكان المدنيين إلا في حالات استثنائية ولأسباب أمنية محددة. ومع ذلك، تشير الأدلة المتزايدة إلى أن السلطات الإسرائيلية قد تكون ترتكب جريمة حرب من خلال تحويل أحياء بأكملها إلى أنقاض، مما يجعل أجزاء كبيرة من غزة غير صالحة للسكن لسنوات قادمة.”
هذا الدمار الواسع لا يهدد حياة السكان فحسب، بل يحرمهم أيضاً من حق العودة إلى منازلهم وأحيائهم، مما يفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة.
المصدر:
https://www.bellingcat.com/news/2024/08/27/satellite-imagery-shows-vast-destruction-in-rafah/