في زحمة دموية لا تتوقف، وسط الحرب التي تكسرت فيها كل قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وجدت أم محمد السيدة الفلسطينية نفسها أمام معركة جديدة، لكنها ليست مع الجنود ولا تحت القصف، بل مع الزمن والمرض. تركت غزة، ليس بحثًا عن حياة أفضل، ولكن للهروب من موت محتم كان يلاحق طفلها محمد. من مراكز الإيواء المزدحمة، إلى انتظار طويل على المعبر، ثم إلى غرفة مستشفى في مصر، باتت رحلتها سلسلة من الألم والأمل، حيث كل خطوة تحمل معها خوفًا من المجهول.
وعلى الجانب الآخر، كانت سلمى قصة أخرى من قصص المعاناة. طفلة فلسطينية حملت في عينيها ذاكرة الحرب قبل أن تتم عامها الرابع. لم تكن تعرف معنى النجاة، فقد جاءت إلى مصر بجسدها، لكن قلبها لا يزال هناك، بين أنقاض بيتها، وبين أحضان والدها الذي بقي في غزة. والدتها لم تكن تبحث عن الأمان فقط، بل عن علاج يوقف العد التنازلي لحياة ابنتها. في كل لحظة انتظار، كانت تتساءل: هل سيكون هناك مستقبل لابنتها؟
في مستشفى القناطر الخيرية، حيث يقيم العشرات من العائلات الفلسطينية، لم يعد المكان مجرد مرفق طبي، بل تحول إلى ملجأ مؤقت. بين الجدران الباردة، والأسرّة التي أصبحت غرفًا للمعيشة، يعيش الأطفال حياة مختلفة، لا تشبه الطفولة التي يستحقونها. بعضهم يلعب بأغطية الزجاجات البلاستيكية، وآخرون يمسكون بدمى ممزقة تبرع بها زوار عابرون. سلمى، بوجهها الشاحب وعينيها الواسعتين، ترتدي فستانها الوردي الذي لم تستطع أن تتخلى عنه، لأنه آخر ما يربطها بوالدها.
لكن المشهد هنا ليس عن البراءة، بل عن الفقدان. كل طفل يحمل حكاية، وكل أم تحاول إخفاء دموعها خلف ابتسامة زائفة. ورغم التبرعات والاهتمام، تبقى النظرات مليئة بالشفقة، وكأن العالم لا يعرف ماذا يفعل مع من لم يعد لديهم وطن.
لم يكن خروج سلمى من غزة اختيارًا، بل كان القدر الذي فرضه القصف والدمار. كانت تركض بين الأزقة، تملأ منزلها بالضحكات، حتى جاء ذلك اليوم الذي تحول فيه بيتها إلى ركام. حين تتحدث، لا تستخدم كلمات طفولية، بل تروي الحكاية كما لو كانت امرأة عاشت سنوات من المآسي. تقول سلمى لمنصة “MENA” بصوتها الخافت: “كان عندنا كنب وقصفوا اليهود”.
لم تعد سلمى مجرد طفلة تلعب، بل أصبحت تحمل أسئلة لا تجد لها إجابة: لماذا مات أخي؟ متى سنعود إلى غزة؟ هل سيقصفنا اليهود هنا أيضًا؟ أسئلة تترك والدتها في صمت، بينما تمسك سلمى بدمية بالية، تهمس لها كما لو كانت الوحيدة التي تفهمها.
لم يكن قرار المغادرة سهلًا، لكنه كان الخيار الوحيد أمام أم محمد، التي كانت تتشبث بأي أمل لإنقاذ طفلها. محمد لم يكن قد رأى النور بعد عندما اكتشف الأطباء إصابته بمرض في القلب. وسط انهيار المنظومة الصحية في غزة، لم تكن هناك فرصة للعلاج. بدأت الأم رحلة طويلة بين الأوراق والتصاريح، تنتظر موافقة قد تأتي متأخرة. شهر كامل مرّ، والوقت لم يكن في صالحها. في كل يوم كانت تشعر بأن ابنها يقاتل للبقاء على قيد الحياة، فيما كانت هي تقاتل من أجل إيجاد مخرج.
حسبما تروي أم محمد لمنصة “MENA” رحلتها هي وأطفالها من غزة إلى مصر لم تكن سلسة، بل اصطدمت بعقبات متتالية، كان أبرزها منع شقيقتها من دخول الأراضي المصرية رغم أنها عبرت الجانب الإسرائيلي دون مشاكل.
تقول أم محمد لمنصة “MENA“: “كنا نعلم أن العبور لن يكون سهلًا، لكننا لم نتوقع أن تأتي العقبة من الجانب المصري بعد أن تجاوزنا كل المراحل السابقة.”
توضح أم محمد أن شقيقتها كانت برفقتها لمساعدتها في رعاية الأطفال، خاصة مع وضع محمد الصحي. تضيف: “عندما وصلنا إلى الجانب المصري، كان كل شيء يسير بشكل طبيعي، لكن فجأة أبلغونا أن شقيقتي لا يمكنها الدخول.” لم تكن هناك أسباب واضحة، ولم يُقدم لها أي تفسير رسمي، فقط قرار نهائي بإعادتها إلى غزة.
محاولات الاستفسار عن سبب المنع لم تُجْدِ نفعًا، فالمسؤولون في المعبر اكتفوا برفض العبور دون إيضاح المبررات. تعلق أم محمد بحسرة: “سألناهم لماذا؟ لم تكن هناك إجابة. كل ما قيل لنا هو أنها يجب أن تعود.”
المفارقة أن شقيقتها كانت قد عبرت الجانب الإسرائيلي دون اعتراض، مما زاد من تعقيد الموقف. “إذا كان هناك مشكلة أمنية، لما سمحوا لها بالخروج من غزة أصلاً، الجانب الإسرائيلي لم يمنعها، فلماذا مصر؟” تساؤل لم تجد له إجابة، لكنها اضطرت للمضي قدمًا في رحلتها مع ابنها المريض دون أي دعم عائلي.
كان فقدان المرافقة بمثابة ضربة قاسية لأم محمد، إذ أصبحت مسؤولة بمفردها عن رعاية أطفالها والبحث عن العلاج وسط مدينة لا تعرف فيها أحدًا. “كنت أعتمد على شقيقتي في كل شيء، والآن وجدت نفسي وحدي في مصر مع طفل مريض يحتاج إلى رعاية خاصة.”
طفل مريض بالقلب يُحرم من الرعاية المتخصصة بسبب غياب التنسيق الطبي
وصلت أم محمد إلى مصر في فبراير من العام الماضي بحثًا عن علاج لطفلها الذي يعاني من عيب خلقي في عضلة القلب، وهو حالة نادرة وخطيرة تتطلب رعاية طبية متخصصة. إلا أن رحلتها العلاجية سرعان ما اصطدمت بسوء التنسيق الطبي، حيث تم وضع الطفل في مستشفيات غير متخصصة، مما أدى إلى تأخير علاجه وتدهور حالته الصحية.
بدأت الرحلة في مستشفى العريش، حيث أقامت العائلة شهرًا كاملًا بانتظار تقييم الأطباء لحالة الطفل. لكن رغم مرور الوقت، لم يتم تأكيد حاجته للعلاج المتخصص، حتى جاء القرار المفاجئ بترحيله إلى القاهرة. عند وصوله، أُدخل إلى مستشفى القناطر حيث تم وضعه في قسم الرعاية المركزة لمدة شهر، ثم نُقل بين عدة أقسام طبية، دون وجود خطة علاجية واضحة تناسب وضعه القلبي الحرج. تقول والدته: “كان عنده نبض عالي جدًا.. قعد أربع شهور على جهاز دعم القلب، لكن في النهاية قالوا لي لازم نوقف الجهاز ونسلمه لكِ.”
لم يتم تحويل الطفل إلى مستشفى متخصص في أمراض القلب، رغم وضوح حالته الطبية منذ البداية، مما أجبر والدته على البحث بنفسها عن بدائل. حاولت إدخاله إلى مستشفى الناس، لكنها تلقت ردًا مفاده أن المستشفى لا يجري عمليات زراعة القلب. ثم تواصلت مع مستشفى مجدي يعقوب، لكنها لم تحصل على أي رد حتى الآن.
“كان المفروض من الأول يحطوه في مستشفى قلب، مش يضيعوا شهور في مستشفيات مش متخصصة.. كل يوم يمر بدون علاج مناسب خطر على حياته.”
بعد تسعة أشهر من المحاولات المستمرة، ما زالت أم محمد تبحث عن حل لإنقاذ ابنها، سواء في مصر أو خارجها. تواصلت مع العديد من الجهات والأطباء، لكنها لم تجد إجابة واضحة حول إمكانية علاجه. تضيف: “أي حد أحس إنه ممكن يساعدني، أروح أكلمه وأحكي له عن ابني.. لكن لحد الآن، لسه قاعدين بنستنى حد ياخد محمد يعالجه برة مصر.”
تواجه أم محمد وأطفالها تحديات يومية منذ وصولهم إلى مصر قبل أكثر من عام، حيث لم تقتصر معاناتهم على رحلة العلاج، بل امتدت إلى ظروف المعيشة الصعبة وغياب الاستقرار. ورغم أنها اضطرت لمغادرة غزة بحثًا عن الرعاية الطبية لطفلها، إلا أنها لا تزال تواجه صعوبات كبيرة في تأمين احتياجات عائلتها في بلد غريب.
مع محدودية الموارد المالية وعدم توفر سكن مناسب، اضطرت أم محمد للإقامة داخل المستشفى لفترة طويلة، حيث عاشت مع أطفالها في غرفة ضيقة، يتشاركون المرافق مع عائلات أخرى. تقول: “لم يكن هناك خصوصية، كنا عدة أسر في مكان واحد، والمرافق كانت مشتركة، مما جعل الحياة أكثر صعوبة.”
كما كانت مسألة الغذاء تمثل تحديًا يوميًا، حيث لم يكن بمقدور العائلات تحضير الطعام، وكانوا يعتمدون على الوجبات التي تُوزع داخل المستشفى. “كنا نحصل على وجبتين فقط يوميًا، وغالبًا ما كان الغداء يصل متأخرًا، ولم يكن كافيًا للأطفال.”
رغم كل هذه التحديات، تحاول أم محمد جاهدة تأمين احتياجات أطفالها وتوفير بيئة أكثر استقرارًا لهم، مستعينة بالمساعدات الإنسانية التي تتلقاها من جهات مختلفة. “الناس قدموا لنا الكثير من الدعم، سواء مساعدات غذائية أو مادية، لكننا ما زلنا نعيش في ظروف غير مستقرة.”
وفي ظل هذه الأوضاع، يبقى مستقبل العائلة غامضًا، إذ لا تملك أم محمد أي ضمانات لتحسين أوضاعها، كما أن العودة إلى غزة غير ممكنة في الوقت الحالي. وبينما تستمر في البحث عن علاج لطفلها، لا تزال تواجه تحديات كبيرة في توفير حياة كريمة لعائلتها، في انتظار حل قد يغير واقعهم الصعب.
تواجه العائلات الفلسطينية المقيمة في مستشفى القناطر الخيرية قيودًا مشددة على حركتها، حيث لم يكن يُسمح لهم بمغادرة المستشفى حتى لشراء مستلزماتهم الأساسية. تصف إحدى السيدات الفلسطينيات، التي رفضت ذكر اسمها، الوضع قائلة: “كنا محبوسين داخل المستشفى، وكأننا في سجن، لا نملك حرية الخروج حتى لشراء الطعام أو احتياجات أطفالنا.”
وأضافت أن هذه القيود استمرت لفترة طويلة، ما دفعهم للاحتجاج والمطالبة بحقهم في التنقل بحرية. “رفضنا البقاء بهذا الشكل، وتحدثنا مع المسؤولين مرارًا، لكن الأمر لم يكن سهلًا، وكنا نشعر وكأننا محتجزون بلا سبب.” بعد محاولات وضغوط متكررة، تم السماح لهم بالخروج، ولكن بصعوبة شديدة، حيث ظلت هناك قيود على تحركاتهم، مما جعل حياتهم اليومية أكثر تعقيدًا.
يواجه الفلسطينيون الذين يقيمون في مستشفى القناطر الخيرية تحديات إضافية تتعلق بمكان إقامتهم، إذ لم يكن يُسمح لهم بمغادرة المستشفى حتى بعد انتهاء حاجتهم للعلاج. ورغم انتهاء فترة علاج بعض المرضى أو استقرار حالاتهم، رفضت الجهات المعنية السماح لهم بالانتقال إلى مساكن أو شقق خارجية، مما أجبرهم على البقاء داخل المستشفى في ظروف غير ملائمة للحياة الطبيعية.
تقول إحدى الفلسطينيات المقيمات هناك: “حاولنا إيجاد سكن خارجي لأن المستشفى لم يعد المكان المناسب لنا، لكن المسؤولين رفضوا تمامًا.. قالوا لنا لو خرجتم، سيتم سحب ملف علاجكم بالكامل ولن يكون هناك تنسيق طبي لكم.” هذا القرار جعلهم أمام خيار صعب، فإما القبول بالعيش داخل المستشفى رغم عدم الحاجة الطبية لذلك، أو المخاطرة بفقدان حقهم في العلاج والمتابعة الطبية في مصر.
وأمام هذا الوضع، لم يكن أمام العائلات الفلسطينية أي خيار سوى الرضوخ لهذه الشروط، خاصة أن معظمهم لا يمتلكون الموارد الكافية لاستكمال العلاج في مستشفيات خاصة أو البحث عن بدائل. “بقينا غصبًا عنا.. لا مسموح لنا نستأجر بيت، ولا مسموح نخرج، وكأن وجودنا مرتبط فقط بالبقاء داخل المستشفى.” هذا الوضع خلق حالة من الضغط النفسي والإحباط بين الفلسطينيين الذين يشعرون بأنهم عالقون في مكان لا يمكنهم مغادرته، دون أي حلول واضحة لمستقبلهم.
رفض مسؤول داخل مستشفى القناطر الخيرية الإدلاء بأي تصريحات لمنصة “MENA” حول أوضاع العائلات الفلسطينية المقيمة في المستشفى، كما رفض السماح بالتحدث مع الأسر نفسها، مشددًا على أن وجودهم داخل المستشفى يتم بتعليمات مباشرة من الأمن الوطني والمخابرات.
وقال المسؤول في حديثه لمنصة “MENA“: “الأسر هنا تابعة للأمن الوطني والمخابرات، لا يمكن لأحد التحدث معهم أو نقل أي تفاصيل عن وضعهم.” وأضاف أن هناك جهات وأشخاصًا حاولوا تأمين مساكن خارجية لهم، لكن الأمن الوطني رفض السماح لهم بالمغادرة، ليظلوا داخل المستشفى منذ أكثر من عام دون أي تغيير في أوضاعهم.
اقرأ يضًا:
مأساة داخل مستشفيات شمال سيناء .. ماذا يجري للفلسطينيين؟
إماراتية واوروبية.. شركات تسعى للإستحواذ على معهد ناصر الطبي
لُغـز مرض أسوان الغامض.. كوليرا أم نزلات معوية؟
معاناة الأطباء بين تردي العمل في القطاع الحكومي واعتداء أهالي المرضى