ترجمات

تحالف المال والأمن في مصر يسعى لجني الأرباح من إعمار غزة

نشر تحقيق في موقع المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية كتبه الباحثان فيليكس هاسشن والدكتور ستيفان رول وذكرا فيه عما إذا كانت غزة ستُعاد إعمارها، ومتى سيحدث ذلك، يبقى أمرًا غامضًا في ظل تجدد القتال بين إسرائيل وحماس.

 

ومع ذلك، فإن الخطة المصرية المطروحة لإعادة الإعمار تبدو الأقرب لأن تكون الأساس لأي تحرك قادم. في قلب هذا المخطط تبرز شبكة من الفاعلين الاقتصاديين والأمنيين، يتصدرهم إبراهيم العرجاني – رجل الأعمال المقرب من الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي سبق أن جنى أرباحًا من الأوضاع الهشة في القطاع.

 

لكن دعم ألمانيا وشركائها الأوروبيين لهذه الخطة لا ينبغي أن يكون بلا شروط؛ فالمطلوب هو الشفافية الكاملة والمساءلة الصارمة، وإلا، فإن الخطر لا يقتصر على تهميش مصالح الفلسطينيين وتحمل تكاليف باهظة، بل يمتد أيضًا إلى ترسيخ نمط الحكم السلطوي في مصر.

 

في الرابع من مارس، صادقت جامعة الدول العربية على خطة إعادة إعمار قطاع غزة التي أعدّتها الحكومة المصرية، لتتحول الخطة بذلك من مبادرة وطنية إلى مشروع عربي متكامل، حظي أيضًا بدعم مشترك من حكومات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة.

 

الخطة المصرية تتعارض بشكل واضح مع رؤية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي كان يطمح لتحويل القطاع الساحلي إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، وطرح في مرحلة ما فكرة توطين الفلسطينيين في دول الجوار.

 

القاهرة، من جانبها، تسعى بكل ما أوتيت من قوة لإفشال هذا السيناريو، إدراكًا منها أن قيام دولة فلسطينية مستقلة لن يكون ممكنًا في المستقبل المنظور. لكن القلق الأكبر لدى صناع القرار المصريين يتمثل في احتمال إقامة مخيمات للاجئين الفلسطينيين على الأراضي المصرية، وهو ما تعتبره الأجهزة الأمنية تهديدًا مباشرًا للاستقرار الداخلي، واحتمالًا خطيرًا لزج البلاد في صراعات مفتوحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قد تصل إلى حد المواجهة المباشرة مع الجار الإسرائيلي.

 

تنطلق الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة من مبدأ أساسي: بقاء نحو مليوني فلسطيني في القطاع، حتى أثناء مرحلة إعادة الإعمار. لكن ما عدا ذلك، فإن الوثيقة المكونة من 100 صفحة تبدو أقرب إلى إعلان نوايا منها إلى خطة تنفيذية واضحة المعالم.

 

وأشار الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، تقسّم الخطة إلى ثلاث مراحل: تبدأ الأولى خلال الأشهر الستة الأولى، وتركّز على إزالة الأنقاض من الشريان الرئيسي الذي يربط شمال غزة بجنوبها، مع إنشاء مساكن مؤقتة وإصلاح المباني السكنية المتضررة جزئيًا. أما المرحلة الثانية، التي يُفترض أن تمتد لنحو عامين، فستشهد استمرار عمليات الإزالة، إلى جانب بناء شبكات البنية التحتية ومزيد من الوحدات السكنية. وفي المرحلة الأخيرة، والتي تمتد لعامين ونصف، سيتم تشييد مساكن إضافية، ومنطقة صناعية، وميناءين – واحد للصيد وآخر تجاري – إضافة إلى مطار دولي.

 

ومن المزمع أن تتولى لجنة من التكنوقراط تنسيق المساعدات الإنسانية في البداية، وتهيئة الأرضية لعودة السلطة الفلسطينية لتولي إدارة القطاع. وفي الجانب الأمني، تُقترح قوة حفظ سلام دولية مخولة رسمياً للإشراف على الاستقرار، ضمن مسار سياسي يسعى إلى تسوية دائمة للصراع على أساس حل الدولتين.

 

أما تمويل الإعمار، فتستند الخطة إلى تقديرات صادرة عن الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، تشير إلى أن التكلفة الإجمالية قد تصل إلى 53.2 مليار دولار، يُفترض أن تجمع من تبرعات الدول والمؤسسات الأممية. ومن هنا، تسعى القاهرة إلى تنظيم مؤتمر للمانحين في أقرب وقت ممكن.

 

 

مصالح اقتصادية خلف ستار الإعمار

 

رغم أن خطة مصر لإعادة إعمار غزة تنطلق من اعتبارات سياسية وأمنية خارجية، إلا أن البعد الاقتصادي يُشكّل دافعًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله. ورغم أن الوثيقة لا تُصرّح صراحةً بدور قيادي لمصر، إلا أنها تشير بشكل غير مباشر إلى “الدور التاريخي والإقليمي” للقاهرة، في تلميح واضح بأنها الأجدر بتولي زمام المبادرة.

 

وفي ظل بقاء المعابر الإسرائيلية مغلقة، من المرجّح أن تمرّ غالبية الإمدادات اللوجستية ومواد البناء عبر الأراضي المصرية، ما يجعل من عملية الإعمار فرصة اقتصادية ثمينة لمصر، فمنذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة عام 2014، شهدت البلاد طفرة عمرانية واسعة، من أبرز معالمها توسيع قناة السويس، وإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، والتوسع الكبير في البنية التحتية للنقل والطاقة، وإن كانت كثير من هذه المشاريع قد أُنجزت في ظل تساؤلات حول جدواها الاقتصادية، كما أوضحا الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان.

 

لكن مع تفاقم الديون العامة وتراجع القدرة المالية للدولة، باتت الحكومة عاجزة عن تقديم عقود مجزية كما في السابق، ما أدى إلى تعطيل قدرات قطاع البناء التي جرى تضخيمها في السنوات الأخيرة. ومن هنا، تبدو إعادة إعمار غزة بمثابة طوق نجاة لعدد من الشركات المصرية، لكن الفرصة الأبرز لن تكون متاحة للجميع، بل ستذهب غالبًا إلى شبكة من المتعهدين والجهات الأمنية المرتبطة بدوائر النفوذ والسلطة.

 

حلقة الوصل بين غزة وسيناء

 

وأشار الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، في قلب شبكة المصالح الاقتصادية المتشابكة يبرز اسم إبراهيم العرجاني، رجل الأعمال وزعيم قبلي من شبه جزيرة سيناء. بدأت ملامح نشاطه التجاري تتبلور منذ عام 2010، عندما أسّس مجموعة “العرجاني” (Organi Group)، التي تحوّلت لاحقًا إلى مظلة تضم مجموعة متنوعة من الشركات.

 

من خلال شركته التابعة “أبناء سيناء”، شارك العرجاني في تنفيذ مشاريع ضخمة، من بينها إنشاء مناطق أعمال في القاهرة الجديدة، ومشاريع داخل العاصمة الإدارية الجديدة، إلى جانب تطوير منشآت رياضية وترفيهية في مناطق متعددة من البلاد، كما يمتد نشاط المجموعة إلى قطاع مواد البناء من خلال شركة “EGY MIX”، وهي واحدة من اللاعبين البارزين في هذا المجال.

 

ولم تتوقف طموحات المجموعة عند حدود البنية التحتية، بل اتجهت أيضًا إلى الاستثمار في المنتجعات السياحية، لا سيما في جنوب سيناء، حيث شيدت مجمعات فندقية تستهدف استقطاب السياحة الداخلية والخارجية.

 

وكتبا الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، بهذا التمدد الاقتصادي، يصبح العرجاني ليس فقط رقماً مهماً في المعادلة المصرية، بل أيضًا طرفًا فاعلًا في أي خطة محتملة لإعمار غزة، بحكم موقعه الجغرافي ومكانته داخل شبكات النفوذ السياسي والأمني في مصر.

 

إمبراطورية أعمال تتجاوز الحدود

 

لا تقتصر طموحات مجموعة العرجاني على السوق المحلي، بل تمتد إلى شراكات دولية في قطاعات استراتيجية، من خلال حصتها في مجموعة “جلوبال أوتو”، ترتبط المجموعة بعلاقات تجارية مع عدد من كبار مصنّعي السيارات العالميين، بما في ذلك شركة بي إم دبليو(BMW)، ما يعزز حضورها في قطاع السيارات الفاخرة.

 

وفي مجال الأمن، تنشط المجموعة عبر شركتي “إيتوس سيكيوريتي” و**”إيغلز سيكيوريتي”**، حيث تتولى تأمين فعاليات كبرى وسفارات أجنبية داخل مصر، ما يعكس حجم ثقة مؤسسات حساسة في خدماتها الأمنية.

 

أما خارج الحدود، فتتركز أنشطة مجموعة العرجاني في شرق ليبيا، من خلال شركتها التابعة “نيوم”، حيث استفادت من عقود إنشاءات ضخمة من صندوق إعادة الإعمار والتنمية الليبي، الذي يترأسه أحد أبناء القائد العسكري الليبي خليفة حفتر. هذا الامتداد الإقليمي يعكس طبيعة النفوذ المتشابك بين الأعمال والسياسة والأمن في نموذج العرجاني الاستثماري.

 

وفي خضم هذه التطورات، أسس العرجاني اتحاد قبائل سيناء عام 2015 بدعم مباشر منه، ليقاتل كميليشيا مسلّحة إلى جانب القوات المسلحة. وتشير تقارير حقوقية إلى أن هذا الاتحاد تورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من بينها تجنيد قاصرين للقتال، ما يسلّط الضوء على الطبيعة المعقدة والغامضة لتحالفات القوة في سيناء

 

وأشار الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، شكّل التحالف بين إبراهيم العرجاني والأجهزة الأمنية المصرية نقطة تحول حاسمة في مسيرته، حيث فتح له بابًا لمصدر دخل بالغ الربحية: إدارة حركة العبور على الحدود بين مصر وغزة. فمنذ عام 2017، بدأت شركة “هلا”، التابعة لمجموعة العرجاني، بتقديم ما وصفته بخدمة “السفر والسياحة”، وهي في جوهرها تسهيل عملية الخروج والدخول عبر معبر رفح، الذي كانت إجراءاته تستغرق أحيانًا شهورًا.

 

تولت “هلا” منذ ذلك الحين مهام استخراج التصاريح، وتنظيم الانتقال من الحدود إلى القاهرة، والأهم من ذلك، إدراج أسماء المسافرين في القوائم الرسمية التي تُعرض على الجهات المصرية عند المعبر.

 

ومع اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، ارتفع الطلب بشكل هائل على مغادرة قطاع غزة، حيث تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 1.5 مليون فلسطيني نزحوا من منازلهم بحلول مطلع نوفمبر من العام ذاته. وأصبحت المغادرة ممكنة فقط عبر ما يُعرف بـ”التنسيق” مع شركة هلا – وهي آلية لم تُعلن رسميًا، لكن السلطات المصرية غضّت الطرف عنها ضمنيًا.

 

الأرقام المتداولة حول الأموال المدفوعة لقاء هذا “التنسيق” مذهلة؛ إذ تشير تقارير موثوقة إلى أن تكلفة الخروج بلغت نحو 5,000 دولار للفرد الواحد. وبافتراض مغادرة 100 ألف شخص فقط، فإن عائدات هذه العملية قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، لتتحول “هلا” من مجرد شركة خدمات إلى أحد أكثر المشاريع ربحًا في ظل واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في المنطقة.

 

منذ عام 2018 على الأقل، لعبت شركات مجموعة العرجاني دورًا محوريًا في توريد المساعدات الإغاثية الحيوية إلى قطاع غزة. فقد كانت اقتصاديات القطاع، حتى قبل اندلاع الحرب، تعتمد بشكل كبير على واردات المساعدات الإنسانية والسلع التجارية.

 

لكن بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة، كانت أوضاع الإمدادات تخضع لتقلبات حادة، تتحكم فيها الكميات التي تسمح إسرائيل بمرورها، ما جعل من توريد السلع مهمة استراتيجية تمثل نافذة حياة لسكان القطاع – وفرصة نفوذ وربح لشركات مختارة.

 

 

“أبناء سيناء” في قلب أزمة المعابر

 

منذ اندلاع الحرب، تدهورت الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة بشكل حاد، مع تصعيد إسرائيل لقيودها على دخول المساعدات. نتيجة لذلك، تعطلت حركة تدفق البضائع بشكل كبير، ما زاد من حدة الأزمة في قطاع يعاني أصلًا من شح الموارد.

 

وأوضحا الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، وسط هذا المشهد، تتزايد التقارير التي تتحدث عن رسوم نقل باهظة تُفرض على شحنات الإغاثة، وقد سلطت الأضواء بشكل خاص على شركة “أبناء سيناء”، التابعة لمجموعة العرجاني، والتي تستفيد من حركة المرور على الحدود.

 

وبحسب هذه التقارير، تولت “أبناء سيناء” معظم مهام الهلال الأحمر في إدارة المساعدات الإنسانية، حيث تدير مستودعاتها الخاصة وتُجري عمليات تفتيش مستقلة لمنع التهريب التجاري، لكن هذه السيطرة الواسعة، إلى جانب فترات الانتظار الطويلة بسبب القيود الإسرائيلية، ساهمت في رفع أسعار المواد الغذائية داخل القطاع.

 

في ظل هذه الديناميكية، تتحول المساعدات من وسيلة نجاة إلى سوق مغلق تُحدد قواعده من قبل فاعلين ذوي نفوذ، ليُضاف البعد الاقتصادي إلى مأساة إنسانية تتفاقم يومًا بعد يوم.

 

تشابك المال والسياسة

 

وأشار الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، لم تكتفِ مجموعة العرجاني بتوسيع رقعتها الجغرافية من خلال أنشطتها المربحة في شبه جزيرة سيناء، بل مضت بخطى سريعة نحو تنويع قطاعات أعمالها، لتتحول إلى إمبراطورية اقتصادية متعددة الأذرع. لكن ما يلفت الانتباه في هذا التوسع ليس فقط حجمه، بل ماهية هيكل الملكية داخل المجموعة، وسط مؤشرات لا تخطئ على وجود روابط وثيقة مع مؤسسات الدولة المصرية.

 

ففي عام 2022، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارًا بتعيين إبراهيم العرجاني كأحد عضوين غير حكوميين في “هيئة تنمية سيناء”، وهي الجهة المسؤولة عن الإشراف على مشاريع التطوير في المنطقة. أما إدارة الشركات التابعة للمجموعة، فتزخر بأسماء ذات خلفيات سياسية وأمنية رفيعة:

 

المدير المالي للمجموعة هو مرزوق القصير، وزير الزراعة الأسبق.

شركة “نيوم للتطوير العقاري” يرأسها عاصم الجزار، وزير الإسكان السابق.

شركة الأمن “إيتوس سيكيوريتي” يقودها اللواء إيهاب أبو زيد، نائب وزير الداخلية الأسبق والمسؤول عن الملفات الضريبية داخل الوزارة عام 2015.

 

اللواء لؤي زمزم، رئيس المخابرات الحربية سابقًا في شمال سيناء، يشغل منصب نائب رئيس شركة “مصر سيناء” التابعة للمجموعة، وهي شركة يمتلك الجيش المصري 51% من أسهمها.

 

ولا تقف علاقات العرجاني عند حدود رجال الدولة، بل تمتد إلى شبكات النسب والمصاهرة، إذ تربطه علاقات تجارية مع شركات مملوكة لرجل الأعمال صفي وهبة، الذي تزوج نجله من ابنة شقيقة الرئيس السيسي، ما يرسّخ تحالفًا معقدًا بين النفوذ الاقتصادي والعائلي والسياسي.

 

بهذا المشهد، لا تبدو مجموعة العرجاني مجرد كيان تجاري، بل جزءًا أصيلاً من منظومة القوة في مصر، حيث تتقاطع المصالح بين رأس المال والدولة في خطوط يصعب فكّ تشابكها.

 

شبكة النفوذ التي تزداد رسوخًا في قلب السلطة المصرية

 

وأوضحا الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، في العامين الماضيين، بدأت الشبكة الواسعة التي يديرها إبراهيم العرجاني تثير اهتمام وسائل الإعلام المستقلة القليلة المتبقية في مصر، وسط مناخ رقابي مشدد. تحقيق استقصائي نُشر على موقع “مدى مصر”، أحد أبرز المنصات الصحفية المستقلة، سلط الضوء على النفوذ المتنامي لرجل الأعمال السيناوي، ما أثار ضجة كبيرة وصلت أصداؤها إلى الصحافة الدولية، حيث خصصت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرًا تناول فيه مسيرته.

 

ورغم الانتقادات التي وُجهت له، خاصةً بشأن استغلال معاناة الفلسطينيين لتحقيق مكاسب مالية، واصل العرجاني توسيع نفوذه الاقتصادي والسياسي، ليصبح واحدًا من أكثر رجال الأعمال قربًا من مراكز القرار في مصر. أحد أبرز ملامح هذا التمدد كان في مايو 2024، حين أسس العرجاني “اتحاد القبائل العربية”، وتولى رئاسته منذ ذلك الحين. الاتحاد يقدّم نفسه كمظلة تمثيلية للقبائل في مصر، لكنه لا يتبنى أي موقف معارض للسلطة، بل يعلن دعمه الصريح لأجندة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يشغل المنصب الفخري كرئيس للاتحاد.

 

وفي يوليو 2024، خطت شبكة العرجاني خطوة غير مسبوقة باتجاه النفوذ الحكومي، حين عيّن الرئيس السيسي محمد شيمي، رئيس قطاع الطاقة في مجموعة العرجاني، وزيرًا لقطاع الأعمال العام، مما وفر لأول مرة قناة مباشرة بين المجموعة والحكومة.

 

ثم جاء الإعلان في ديسمبر 2024 عن تأسيس “حزب الجبهة الوطنية”، بقيادة عاصم الجزار، وزير الإسكان الأسبق، والذي تولى رئاسة الحزب، وشغل مرزوق القصير، المدير المالي لمجموعة العرجاني ووزير الزراعة السابق، منصب الأمين العام للحزب. كما ضمت اللجنة التأسيسية للحزب عصام العرجاني، النجل الأكبر لإبراهيم العرجاني والرئيس التنفيذي الحالي للمجموعة، الذي بدأ يلعب دورًا متزايدًا داخلها. أما الأب، فكان أحد أبرز الممولين الرئيسيين للحزب الوليد.

 

تأسيس الحزب أثار ردود فعل واسعة في الساحة السياسية، خصوصًا مع انضمام شخصيات بارزة من النخبة السياسية والاقتصادية، من بينهم ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، التابعة مباشرة لرئاسة الجمهورية. رشوان لعب أيضًا دور المنسق العام لما يسمى بـ”الحوار الوطني”، الذي أطلقه الرئيس السيسي كمنصة للنقاش المجتمعي، بينما اعتبرته منظمات حقوقية مصرية مجرد ديكور تجميلي لنظام سلطوي مغلق.

 

وذكرا الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان أن مشاركة رشوان في الحزب الجديد تعزز التوقعات بأن “الجبهة الوطنية” ستكون القوة السياسية الرئيسية في انتخابات البرلمان المقبلة المقرر عقدها نهاية 2025، مع احتمالات قوية بأن تتحول إلى الحزب الحاكم الجديد، في إطار إعادة هندسة المشهد السياسي لخدمة استقرار النظام القائم.

 

لكن الأهم من ذلك، أن هذه التطورات تؤكد مدى تغلغل شبكة العرجاني في صميم السلطة المصرية، بحيث لم تعد مجرد تكتل اقتصادي طموح، بل أصبحت ركنًا أساسيًا في معادلة الحكم والسلطة والنفوذ في البلاد.

 

نفوذ سياسي واقتصادي في قلب غزة ما بعد الحرب

 

في فبراير 2025، أعلن عصام العرجاني، الرئيس التنفيذي لمجموعة العرجاني، خلال مؤتمر صحفي، عن استعداد مجموعته الكامل للمشاركة في إعادة إعمار قطاع غزة. وبالمقارنة مع باقي شركات البناء التي أبدت اهتمامًا بالمشروع، تبدو المجموعة في موقع متقدم بفضل هيمنتها شبه المطلقة على حركة العبور عبر معبر رفح، إضافة إلى شبكة علاقاتها السياسية الواسعة.

 

وما لبثت تلك التصريحات أن تُرجمت على الأرض؛ إذ شوهدت آليات ومعدات تابعة للمجموعة تعمل بالفعل داخل غزة فور سريان اتفاق وقف إطلاق النار في فبراير 2025. ويستند هذا التدخل إلى خبرات سابقة اكتسبتها المجموعة بعد الحرب بين إسرائيل وحماس عام 2021، عندما أعلنت مصر للمرة الأولى أنها ستتولى قيادة جهود الإعمار، بل وتعهدت بمساهمة مالية قدرها 500 مليون دولار، لكن على الأرض، لم تُنفذ أعمال الترميم والبنية التحتية من قبل شركات فلسطينية، بل أوكلت إلى شركة “أبناء سيناء” التابعة للعرجاني، وتركزت الجهود على مشاريع إنشائية جديدة بدلًا من إصلاح ما تضرر.

 

ورغم الوعود الكبيرة، ظل الغموض يكتنف حجم الأموال التي وصلت فعليًا إلى غزة، في ظل انعدام الشفافية. في الوقت ذاته، اشتكى الفلسطينيون من ارتفاع جنوني في أسعار مواد البناء، التي كانت المجموعة تتحكم بتوريدها بشكل شبه حصري، مستفيدة من واقع الحصار الإسرائيلي الذي جعلها بوابة عبور وحيدة تقريبًا، وأدى إلى تحويل أزمة إنسانية إلى فرصة تجارية محصورة.

 

وأشار الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، لكن الحرب الأخيرة خلّفت دمارًا غير مسبوق. فبحسب التقديرات، نحو 92% من المباني السكنية تضررت أو دُمرت بالكامل، وتُشير التوقعات إلى أن إزالة الأنقاض وحدها قد تستغرق 15 عامًا. ووفق الخطة المصرية للإعمار، سيُفترض بناء 200 ألف وحدة سكنية خلال أول عامين فقط، بتكلفة تصل إلى 20 مليار دولار، ومن غير المرجّح أن تتمكن مجموعة العرجاني من تنفيذ هذا المشروع العملاق وحدها، لكنها مؤهلة، بفعل سيطرتها على المعابر، لأن تلعب دور “حارس البوابة”، حيث لن تتمكن أي شركة من المشاركة في الإعمار دون التنسيق معها أو العمل تحت مظلتها كمقاول فرعي.

 

هذا النفوذ يفسر اهتمام الحكومات الأجنبية بالتعاون مع المجموعة، فعقب تأسيس اتحاد القبائل العربية في مايو 2024، زار وفد قطري مقر الاتحاد، وسرعان ما تبع ذلك توقيع شركة تابعة لـ جهاز قطر للاستثمار (QIA) على عقود لتنفيذ ثلاثة مشاريع عقارية كبرى في مصر بالتعاون مع مجموعة العرجاني، وفي فبراير 2025، أعلنت المجموعة عن شراكة استراتيجية مع شركة الصين للهندسة والإنشاءات (CSCEC)، باستثمارات متوقعة تصل إلى 5 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث الأولى.

 

وفي سياق إعادة إعمار غزة، من المتوقع أن تكتسب العلاقة الوثيقة بين مجموعة العرجاني وشركة CCC العالمية للمقاولات أهمية إضافية. هذه الشركة، التي نفّذت مشاريع كبرى بالشراكة مع العرجاني، من بينها مقر “أبناء سيناء” ومشروع “ذا آرك” في القاهرة وجسور في مدينة درنة الليبية، تخضع لسيطرة عائلة خوري الفلسطينية المقربة من السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس.

 

وأشار الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان، الأهم أن شركة CCC، بالتعاون مع صندوق الاستثمار الفلسطيني، تمتلك الحصة الأكبر في حقوق تطوير حقل غاز غزة البحري، الواقع على بعد 35 كيلومترًا من سواحل القطاع، وكان قد تم توقيع اتفاقيات في عامي 2021 و2022 مع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) للسماح بمشاركة شركات مصرية خاصة في المشروع، مع احتمال تصدير الغاز إلى مصر. لكن اندلاع الحرب أوقف هذه الخطط.

 

ومع بدء جهود الإعمار، يُتوقع أن يعود ملف تطوير حقل الغاز إلى الطاولة، نظرًا لأهمية عوائده في تمويل إعادة إعمار القطاع. وهنا تبرز مجموعة العرجاني مرة أخرى كلاعب رئيسي، بفضل ارتباطها الوثيق بشركة CCC وشبكتها السياسية والعسكرية الواسعة، ما قد يمنحها موقعًا استراتيجيًا في التحكم بمستقبل تجارة الغاز الفلسطيني.

 

في المحصلة، لا تبدو مجموعة العرجاني مجرد شركة مقاولات تطمح بالمشاركة في إعادة إعمار غزة، بل ركيزة محورية في شبكة النفوذ التي تمتد من سيناء إلى غزة، ومن القاهرة إلى عواصم القرار الإقليمي والدولي، حيث يختلط المال بالسياسة، وتُعاد صياغة الخرائط تحت مظلة الإعمار.

 

مستقبل غامض: إعمار معطّل وشبح التهجير يقترب

 

في منتصف مارس 2025، انهارت الهدنة التي تم التوصل إليها في يناير، بعد أن استأنفت إسرائيل عملياتها العسكرية في قطاع غزة، لتُعيد مشهد الحرب والدمار إلى الواجهة، وتُعيد معه مشروع إعادة الإعمار إلى رف الانتظار. ومع تجدد العنف، باتت آفاق إعادة بناء القطاع أكثر غموضًا وبعدًا من أي وقت مضى.

 

الأسئلة الجوهرية حول الوضع المستقبلي لغزة، وإدارتها، ودور حركة حماس، لا تزال بلا إجابة، وتغذي حالة من الانسداد السياسي العميق. لكن الأخطر من ذلك، هو الغموض المحيط بنية كل من الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية – خاصة في ظل تصاعد نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة داخلهما – بشأن مستقبل غزة كأرض فلسطينية.

 

لم تعد المخاوف من مخططات التهجير الجماعي مجرد تكهنات؛ فقد صرّح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأن غزة يمكن أن تتحول إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، في تلميح إلى تفريغها من سكانها، في حين مضت حكومة نتنياهو خطوة أبعد، بإعلانها عن إنشاء هيئة رسمية تُعنى بـتعزيز “الرحيل الطوعي” للفلسطينيين من القطاع. إلى جانب تصريحات تحريضية من مسؤولين إسرائيليين كبار، تتضح معالم رغبة سياسية دفينة في إعادة رسم الخريطة الديمغرافية لغزة.

 

سواء تم التهجير عبر قرار مباشر، أو من خلال تدمير ممنهج لسبل العيش ودفع السكان إلى الرحيل القسري، فإن النتيجة واحدة: جريمة بحق الإنسانية وانتهاك فاضح للقانون الدولي.

 

من هذا المنطلق، يجب على ألمانيا وشركائها الأوروبيين اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه، برفض أي مخطط يؤدي إلى تهجير الفلسطينيين، مهما كانت التبريرات أو الآليات. الصمت في هذه المرحلة لا يُعدّ حيادًا، بل تواطؤًا غير مباشر في مأساة تاريخية جديدة يجب أن يُحال دون وقوعها بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية الممكنة حسبما ذكرا الباحثان فيليكس والدكتور ستيفان.

 

في ظل حالة عدم اليقين التي تخيّم على مستقبل قطاع غزة، شكّل دعم الدول الأوروبية لخطة إعادة الإعمار التي أعدّتها القاهرة إشارة سياسية مهمة، تعكس رغبة في تعزيز الاستقرار وتفادي الانهيار الإنساني الكامل. لكن، ورغم أهمية هذا الدعم، فإن التنفيذ المحتمل للخطة بوساطة مركزية من مصر ينطوي على مخاطر جسيمة، لا يمكن تجاهلها – لا سيما في ظل الدور المحوري الذي تلعبه شبكة مصالح مترامية يقودها “مجموعة العرجاني”، كما ورد في التقارير السابقة.

 

تكرار سيناريو ما بعد حرب 2021 يظل احتمالًا واردًا، حين تم تنفيذ مشروعات الإعمار دون مشاركة حقيقية للفلسطينيين، سواء على مستوى شركات المقاولات المحلية أو حتى في مراحل التخطيط وتحديد الأولويات. واليوم، يبدو أن المصالح الفلسطينية قد توضع مجددًا على الهامش، ما لم تتم مراجعة نقدية شاملة للخطة المصرية، ليس فقط من حيث آليات التنفيذ، بل من حيث المنظور الذي تتبناه تجاه ما يحتاجه القطاع فعليًا.

 

فعلى سبيل المثال، لا تحظى مسألة توسيع الميناء – وهي خطوة جوهرية لتحسين الوصول إلى غزة – باهتمام يُذكر في الخطة المصرية، رغم أنها قد تمثّل تحولًا حاسمًا في فك العزلة المفروضة على القطاع. هذا التجاهل يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت القاهرة ترغب فعليًا في تغيير مسارات الوصول القائمة حاليًا، خاصة وأن مجموعة العرجاني تسيطر فعليًا على سلاسل الإمداد والمعابر، ما يمنحها نفوذًا اقتصاديًا ضخمًا يصعب التخلي عنه.

 

إلى جانب ذلك، تبرز مخاوف حقيقية من ارتفاع تكاليف الإعمار بشكل مبالغ فيه، ليس فقط بسبب الاحتكار الفعلي الذي تمارسه المجموعة في قطاع النقل واللوجستيات، خصوصًا في ما يتعلق بتوريد مواد البناء، بل أيضًا نتيجة احتمال منح العقود على أساس الولاء السياسي لا الكفاءة الاقتصادية.

 

وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن تتحوّل عملية إعادة الإعمار – بدلًا من أن تكون مدخلًا للتعافي وإعادة البناء – إلى أداة جديدة لترسيخ النظام السلطوي في مصر. فمن خلال مكافأة رجال الأعمال المقرّبين من السلطة، قد يستغل النظام بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي هذه الفرصة لتعزيز شبكته من المصالح السياسية والاقتصادية، وعلى رأسها تلك التي تدور حول مجموعة العرجاني، بما يُكرّس نمط الحكم القائم ويزيد من إحكام قبضته على مفاصل الدولة.

 

إن الإعمار الحقيقي لا يمر فقط عبر الإسمنت والحديد، بل يبدأ من شفافية العملية وعدالتها، ومن وضع مصالح الفلسطينيين في مركز المعادلة، لا في هامشها.

 

دور أوروبي فاعل لضمان إعمار عادل وشامل

 

بقدر ما ينبغي على ألمانيا وشركائها الأوروبيين دعم الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة ودمجها في مسار دبلوماسي أوسع يهدف إلى تحقيق تسوية طويلة الأمد للنزاع – بما يمنح سكان القطاع بصيص أمل في مستقبل أفضل – فإن عليهم في المقابل استثمار موقعهم كجهات مانحة رئيسية للضغط باتجاه احترام المبادئ الأساسية في تطوير وتنفيذ الخطة.

 

ومن أبرز هذه المبادئ، ضرورة ضمان أوسع مشاركة ممكنة للمجتمع المدني الفلسطيني في عملية التخطيط الجارية، بحيث لا تكون إعادة الإعمار مجرد مشروع فوقي، بل عملية تشاركية تنطلق من أولويات واحتياجات الفلسطينيين أنفسهم.

 

وفي سياق مؤتمر المانحين الذي تعتزم مصر تنظيمه، يُفترض أن تضغط ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون من أجل إنشاء صندوق دولي تحت إشراف البنك الدولي – وهو مقترح سبق أن قدمته السلطة الفلسطينية، وجود مثل هذا الصندوق سيُسهم في توزيع الموارد بشكل شفاف وعادل، وضمان أن تُصرف وفقًا للاحتياجات الفعلية على الأرض، وبما يُعزز دور الفاعلين الاقتصاديين الفلسطينيين في عملية الإعمار، بدلًا من تهميشهم أو تجاوزهم.

 

بهذا الشكل، يمكن للدعم الأوروبي أن يتحول من مجرد تمويل، إلى رافعة لضمان العدالة والشفافية والمشاركة الفلسطينية الحقيقية في إعادة بناء ما دمرته الحرب.

 

رابط المصدر: 

 

https://www.swp-berlin.org/en/publication/how-a-network-of-entrepreneurs-and-security-actors-in-egypt-wants-to-profit-from-the-reconstruction-of-gaza

Hosam Sabri
مترجم صحفي، خبير في ترجمة وتحليل التقارير الصحفية، والمواد الصحفية ذات الطابع الاستقصائي، ملتزمًا بالدقة والموضوعية.

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية