تشهد مصر انتشارًا واسعًا للمنشآت العسكرية في مختلف أنحاء البلاد، بما فيها من معسكرات وثكنات ومقرات إدارية ومناطق عسكرية مغلقة، وتتوزع المنشآت العسكرية في مصر على امتداد الخريطة المصرية، لكنها تتركز بشكل أكبر في محيط القاهرة الكبرى، إضافة إلى المناطق الحدودية، خاصة في سيناء، والحدود الغربية، والمدن الساحلية الاستراتيجية مثل الإسكندرية، بورسعيد، مرسى مطروح.
وقد أدى هذا الانتشار إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ”مناطق التماس” – وهي المناطق السكنية المدنية المتاخمة للمنشآت العسكرية – ويعيش في هذه المناطق آلاف المدنيين الذين يواجهون ظروفًا إنسانية تختلف عن باقي المناطق السكنية العادية.
كما يعيش سكان عدد من البلدان العربية نفس الظروف التي يعيشها السكان في مناطق التماس، مثل فلسطين، وسوريا، والسودان، وليبيا، واليمن.
تنتشر عبارات “ممنوع الاقتراب أو التصوير” على أي منشأة عسكرية، حتى لو كانت مبنى إداريًا، وتعتبرها الدولة أماكن لا يُسمح بالاقتراب منها، ومن يفعل ذلك يعرّض نفسه للمحاكمة.
وتتفاوت هذه المعاناة من منطقة لأخرى، بحسب الأوضاع الأمنية فيها، ومستجدات الأحداث، وتاريخ المنطقة. ويزداد الأمر سوءًا حينما تشتعل الحروب والصراعات، ويتحوّل جيران القواعد العسكرية إلى مرمى نيران المهاجمين، مثلما حدث مع “أميرة” في السودان.
بدأت الاشتباكات في السودان في أبريل 2023 بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، وأسفرت عن آلاف القتلى والجرحى، فيما حوصر عشرات الآلاف من المدنيين داخل أحيائهم.
وسط الدخان المتصاعد وأصوات الرصاص التي لا تهدأ، عاشت أميرة عبد الرحمن، فتاة سودانية تبلغ من العمر 26 عامًا، في أحد أحياء الخرطوم، حيث أصبحت شوارع المدينة ساحات قتال مفتوحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
“كل شيء تغيّر في لحظة، حتى صوت العصافير انقرض من حينا”، هكذا بدأت أميرة حديثها لـ”MENA”، واصفةً حياتها الجديدة منذ اندلاع القتال في العاصمة السودانية.
وقالت أميرة إنه منذ اندلاع الاشتباكات في أبريل 2023، أصبح سكان الخرطوم يعيشون جنبًا إلى جنب مع المقاتلين المنتشرين في شوارع المدينة، مؤكدةً أنها شاهدت جيرانها يتفاوضون مع جنود الدعم السريع فقط كي يعبروا الشارع لشراء الخبز.
وأضافت “أميرة”، قبل أن تنتقل للعيش في مصر، أن الوضع خارج عن السيطرة، وأن المعسكرات المنتشرة حولهم تزيد من حالة الخوف والفوضى، خصوصًا في الأحياء السكنية.
وقالت إن قوات الدعم السريع سيطرت على عدد من المرافق الحيوية، من بينها مراكز شرطة ومستشفيات، كما نصبت نقاط تفتيش في شوارع رئيسية، بل واستخدمت بعض البيوت كمواقع تمركز.
وأضافت أميرة أن منزلهم يجاور صيدلية ومخبزًا، وأنها كانت تشاهد يوميًا عربات عسكرية تقف أمام المنزل، مؤكدةً أنها رأت بعينيها جنود الدعم السريع وهم يفتشون النساء كما الرجال، ناهيك عن سماع أصوات إطلاق النار بشكل متواصل.
وحول الخوف والهلع الذي عاشته، قالت أميرة إن قوات الدعم السريع “في أي لحظة ممكن تقتحم المنازل، ويستخدمونا كدروع بشرية”.
وتمنّت أميرة أن تعود إلى السودان بدون خوف، “أسمع صوت أطفال بيلعبوا في الشارع، وأمشي إلى السوق بدون ما أرفع إيدي في نقطة تفتيش”، هكذا اختتمت حديثها.
قال اللواء الطبيب محمد الفقي، استشاري الطب النفسي والأعصاب بالقوات المسلحة، إن “العيش بالقرب من المعسكرات أو في مناطق النزاع يعرّض المدنيين لضغط نفسي مزمن، يؤدي في كثير من الحالات إلى اضطرابات نفسية شديدة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق المزمن، والاكتئاب”.
وأضاف في تصريح لمنصة “MENA” أن “الأشخاص، خصوصًا النساء والأطفال، ممن يعيشون في بيئة يسيطر عليها السلاح وأصوات الانفجارات بشكل يومي، غالبًا ما يعانون من أعراض مثل اضطراب النوم، وضعف التركيز، ومشاعر الخوف الدائم، والتغيرات السلوكية”.
كما أشار إلى أن “التعرض المستمر للتوتر دون وجود دعم نفسي أو بيئة آمنة، قد يؤدي إلى تدهور في الصحة النفسية والجسدية، وقد نلاحظ آثار ذلك حتى بعد انتهاء النزاع، خاصة لدى الأطفال، الذين قد يتطور لديهم سلوك عدواني أو انعزالي”.
واختتم حديثه بالتأكيد على أهمية أن تتضمن خطط الإغاثة والدعم الإنساني خدمات الصحة النفسية، لأن الأثر النفسي للصراع لا يقل خطورة عن الجروح الجسدية، بل يستمر تأثيره لسنوات طويلة بعد توقف إطلاق النار.
قالت فاطمة سليمان، معلمة في العقد الخامس من العمر، إنها كانت تعمل معلمة في معهد ابتدائي يتبع الأزهر الشريف في محافظة الشرقية، لكن نصحها بعض الزملاء بالتوجه إلى مدينة العريش في شمال سيناء بسبب الراتب المرتفع الذي يصل إلى الضعف.
وذكرت فاطمة في حديثها لمنصة “MENA” أنها بدأت في ممارسة مهنتها بمدينة العريش منذ عام 2010، ولكن بعد عام 2013 انقلبت الأمور رأسًا على عقب، وأصبح الدخول إلى المدينة صعبًا للغاية.
وأضافت أنه كان يجب عليها الحصول على تصريح مسبق للدخول إلى العريش، هي ومن أراد زيارتها من أفراد أسرتها أثناء العام الدراسي، وهو ما كان يصعّب من السفر واللقاء بشكل كبير.
وتابعت أن نقاط التفتيش والحواجز العسكرية المنتشرة على الطريق كانت تقوم بإيقافهم وتفتيشهم بشكل متكرر، وهو ما كان يثير حفيظتها، حتى قررت تقديم طلب نقل إلى الإدارة التعليمية التابعة لها في محافظتها مرة أخرى.
أكد الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء سمير فرج أن وجود المدنيين إلى جانب المعسكرات يشكّل عبئًا كبيرًا على المنشآت العسكرية، وخاصة في حال قيام الحرب أو وجود نزاع مسلح.
وأضاف في تصريح لمنصة “MENA” أن المدنيين يصيبهم ما يصيب العسكريين في حالات الحرب، حيث يتم التركيز على قصف المنشآت العسكرية، ولا يتم التمييز بين المدني والعسكري في تلك اللحظة.
وأشار إلى أن الجيش يأخذ معسكراته الكبيرة إلى خارج المدن للتخفيف على المدنيين، إلا إذا اضطرت الظروف إلى غير ذلك.
وأوضح أن وجود سكان مدنيين قرب المنشآت العسكرية لا يمثل فقط خطرًا عليهم، بل يُعقّد من مهام القوات المسلحة في تأمين المواقع وحمايتها.
وبيّن في حديثه لـ”MENA” أنه من الأفضل دائمًا وجود حزام أمني حول المعسكرات الكبرى، وتحديد نطاقات سكنية تبعد عنها بمسافات آمنة، تجنّبًا لأي خسائر بشرية قد تنجم عن استهداف مباشر أو غير مباشر.
وفي السياق ذاته، شدد على أن بعض المدن العربية، ومنها مدن في السودان وسوريا، شهدت خلال السنوات الماضية كوارث إنسانية بسبب احتكاك الحياة المدنية بالبنية التحتية العسكرية، كما لا يخفى علينا ما يحدث في ليبيا الآن.
وقال: “عندما تتحول الأحياء السكنية إلى مناطق تماس، فإن المدنيين يصبحون عرضة للنزوح أو الموت أو حتى الاستخدام كدروع بشرية، كما يحدث أحيانًا في النزاعات غير المتكافئة”.
وسط الأوضاع المتفجرة التي يعيشها قطاع غزة، استطعنا في منصة MENA إجراء حوار خاص مع “أحمد”، شاب فلسطيني يبلغ من العمر 24 عامًا، يعيش في منطقة خزاعة شرق خانيونس، المتاخمة تمامًا للحدود مع إسرائيل.
قال أحمد: “إن الحياة هنا لا تُشبه الحياة في أي مكان آخر. نحن لا نعيش، نحن نحاول أن ننجو فقط. معسكرات الجيش الإسرائيلي على بُعد مئات الأمتار فقط، نراها بأعيننا، وأحيانًا نسمع الجنود يتحدثون ليلاً”.
وأضاف: “منذ سنوات ونحن نعتاد على صوت الطائرات المسيّرة التي لا تفارق السماء، لكن بعد 7 أكتوبر، الأمور خرجت عن السيطرة؛ فقد أصبح الصوت أعلى، والانفجارات أقرب، والقلق لا يفارقنا، والطائرات المسيّرة، أو كما نسميها ‘الزنانات’، لا تهدأ أبدًا. لا يوجد ليل ولا نهار، كلها لحظات من الترقب”.
وتابع أحمد: “حتى الهدوء هنا مخيف. عندما تصمت الطائرات، نعلم أن شيئًا سيحدث. الصمت يكون تمهيدًا لصاروخ أو اقتحام أو قصف، وفي كثير من الأحيان لا ندري أين ذهب”.
وحول الحياة قبل الحرب قال: “كانت حياتنا خليطًا من التوتر والتأقلم، كنا نسمع صوت الزنانات بشكل شبه يومي، لكنها لم تكن تقصف دائمًا، فقد كانت تراقب فقط، وهذا وحده كان يكفينا لنفقد النوم”.
وتابع في حديثه إلينا: “أحيانًا كنا نرى الآليات العسكرية تتحرك على الجانب الآخر من السلك الفاصل، ونسمع إطلاق نار تحذيري، خصوصًا عند اقتراب المزارعين من بعض المناطق”، متابعًا أن هذا كان “روتينًا يوميًا”، نحاول أن نعيش فيه، نزرع أرضنا، نعمل، ونرسل أولادنا إلى المدارس.
اقرأ أيضًا:
الوجود العسكري المصري المتنامي في سيناء يثير جدلاً إسرائيلياً متزايداً
بعد خفض التضخم هل يشعر المواطن بتغيير في الأسعار؟