أثار قرار رئاسي بتخصيص 174.4 مليون متر مربع من الأراضي في منطقة رأس شقير الاستراتيجية، على البحر الأحمر، لصالح وزارة المالية، بهدف استخدامها في إصدار صكوك سيادية لخفض الدين العام، عاصفة من الجدل السياسي والاقتصادي.
فبينما تدافع الحكومة عن الخطوة باعتبارها أداة تمويل مبتكرة لا تمس ملكية الأصول، حذرت أصوات معارضة من أنها قد تكون “رهانًا خطيرًا” على مستقبل مقدرات الدولة.
هذا القرار، الذي جاء في أعقاب صفقات استثمارية كبرى مثل صفقة رأس الحكمة، فتح على الفور باباً واسعاً للجدل.
فمن جهة، تقدم الحكومة هذه المبادرة نموذجا مبتكرا لإدارة الأصول، يهدف إلى تحويل الأراضي غير المستغلة إلى أداة لجذب استثمارات جديدة وتنمية منطقة واعدة، مع الحفاظ على سيادة الدولة على الأرض.
ومن جهة أخرى، ترتفع أصوات معارضة وخبراء محذرين من أن هذه الخطوة، مهما كانت مسمياتها، قد تمثل “رهاناً خطيراً” على أصول استراتيجية غير قابلة للتعويض، وتفتح الباب أمام “تسييل” ممنهج لمقدرات الدولة.
في مواجهة الانتقادات، سارعت وزارة المالية والجهات الحكومية إلى توضيح الأبعاد الفنية والقانونية للقرار، مؤكدة أن العملية لا تمثل بيعاً للأصول السيادية.
الرواية الرسمية ترتكز على مفهوم “حق الانتفاع”، وهو مبدأ قانوني وشرعي يسمح للمستثمرين (حملة الصكوك) بالاستفادة من العوائد التي يدرها الأصل لفترة زمنية محددة، قد تصل إلى 30 عاماً، دون نقل ملكية الأصل نفسه (“حق الرقبة”) الذي يظل بالكامل في حوزة الدولة المصرية.
هذا النموذج، بحسب الحكومة، يحقق أهدافاً متعددة:
أولاً، على الصعيد المالي، يهدف إلى تنويع مصادر التمويل بعيداً عن أدوات الدين التقليدية مرتفعة التكلفة، وجذب شريحة جديدة من المستثمرين، خاصة الصناديق السيادية الخليجية والمؤسسات المالية التي تفضل الأدوات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية.
وتأمل الحكومة أن تساهم هذه الخطوة في تحقيق هدفها الطموح بخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 81% بحلول عام 2026.
ثانياً، على الصعيد التنموي، تؤكد الحكومة أن حصيلة الصكوك لن تذهب لسد عجز الموازنة بشكل عام، بل سيتم توجيهها لتمويل مشروعات استثمارية وتنموية على أرض رأس شقير نفسها.
وتشمل الخطط تحويل المنطقة إلى مركز عالمي للطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، بالإضافة إلى مشروعات سياحية وصناعية ولوجستية، بما يتماشى مع “رؤية مصر 2030” واستراتيجيتها الوطنية للطاقة.
ولتبديد المخاوف الأمنية، نص القرار الرئاسي بوضوح على أن القوات المسلحة تحتفظ بملكيتها الكاملة للمواقع العسكرية داخل المساحة المخصصة، باعتبارها مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية لا يمكن المساس بها.
أبدى مجدي حمدان، المحلل السياسي، “قلقه البالغ” من القرار.
وقال حمدان في تصريحات خاصة لـ “MENA“: “رأس شقير ليست مجرد أرض، بل منطقة ذات أهمية جيواستراتيجية وأمنية واقتصادية، تضم ميناءً ومحطات بترول وغاز. التفريط فيها، ولو جزئيًا، تحت مسمى التمويل، يُعد رهانًا خطيرًا على أصول غير قابلة للتعويض”.
وعبر حمدان عن خشيته من أن تكون هذه الخطوة بداية لنهج أوسع، قائلاً: “ما أخشاه أن تتحول سياسة الصكوك من أداة تمويل مؤقتة إلى مسار دائم لتسييل الأصول السيادية، على حساب الأمن القومي والاستقلال الاقتصادي، وهو أمر ليس بالمستبعد”.
وشكك القيادي بحزب المحافظين في الجدوى التنموية المباشرة للصكوك، معتبرًا أنها “غالبًا أداة لتحصيل تمويل عاجل مقابل أصول الدولة، دون ضمان أن يعود هذا التمويل بإنتاج فعلي أو قيمة مضافة مستدامة”.
واستدعى حمدان تجارب دولية كقصص تحذيرية، مشيرًا إلى ما حدث في بعض دول جنوب أوروبا خلال أزمة ديونها السيادية. وقال: “في حالات كثيرة عالميًا، مثل ما حدث في بعض دول الجنوب الأوروبي، أدى بيع أو رهن أصول الدولة إلى تفكيك البنية الاقتصادية الاستراتيجية لصالح مصالح قصيرة الأجل، ثم الندم لاحقًا عندما فقدت الدول سيطرتها على مواردها الحيوية”.
واختتم حمدان دعوته بالمطالبة بـ”مراجعة هذا القرار بشفافية، وفتح حوار وطني يوازن بين الحاجة للتمويل وضرورة الحفاظ على ممتلكات الدولة ومقدراتها الاستراتيجية”.
تكتسب مخاوف المعارضة وزنها من القيمة الاستراتيجية الفائقة لمنطقة رأس شقير. فهي ليست مجرد أرض صحراوية، بل هي كنز متعدد الأوجه.
تاريخياً، كانت مركزاً لأنشطة استخراج النفط والغاز، وجغرافياً، تقع على ممر ملاحي عالمي بالقرب من المدخل الجنوبي لقناة السويس وفي مواجهة الساحل السعودي، مما يجعلها نقطة ارتكاز محتملة في أي ممرات اقتصادية مستقبلية.
بيئياً، تضم المنطقة بعضاً من أكبر تجمعات الشعاب المرجانية البكر في العالم، مما يمنحها إمكانات سياحية هائلة.
ومستقبلياً، تم تحديدها كموقع مثالي لمشروعات الطاقة النظيفة العملاقة، خاصة الهيدروجين الأخضر الموجه للتصدير إلى أوروبا.
أما التحذير من تجارب دول جنوب أوروبا، فيشير تحديداً إلى ما حدث في اليونان خلال أزمة ديونها السيادية. ف تحت ضغط الدائنين الدوليين، اضطرت أثينا إلى بيع أصول استراتيجية ومربحة، مثل بيع حصة الأغلبية في ميناء بيرايوس لشركة صينية وتأجير 14 مطاراً إقليمياً مربحاً لشركة ألمانية.
ويرى المراقبون أن هذه الصفقات تمت بأسعار بخسة (fire sale) ووفرت سيولة لمرة واحدة، لكنها حرمت الدولة من تدفقات نقدية مستقبلية مستقرة، وأدت إلى فقدان السيطرة على بنية تحتية حيوية، مع تكاليف اجتماعية باهظة.
يضع هذا الجدل مصر أمام مفترق طرق اقتصادي دقيق، فمن جهة، تواجه الحكومة ضغوطاً حقيقية لتدبير التمويل اللازم لخدمة ديونها وتمويل خططها التنموية، وتعتبر الصكوك أداة مبتكرة لتحقيق ذلك بتكلفة أقل من أدوات الدين التقليدية.
ومن جهة أخرى، تثير المخاوف التي عبر عنها حمدان وآخرون تساؤلات مشروعة حول التكلفة طويلة الأمد لمثل هذه القرارات على استقلالية القرار الاقتصادي والسيطرة على الأصول الاستراتيجية، خاصة مع وجود تقارير تشير إلى إمكانية تحويل هذه الصكوك إلى أسهم في المشروعات مستقبلاً، وهو ما قد يمثل “خصخصة مقنّعة”.
ويبقى نجاح هذه المناورة المالية المعقدة مرهوناً بقدرة الحكومة على ضمان الشفافية الكاملة في استخدام العائدات، ووضع إطار قانوني صارم يمنع تحول “حق الانتفاع” إلى ملكية دائمة، والأهم من ذلك، تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة على أرض الواقع، وهو ما ستكشف عنه السنوات القادمة ليحكم التاريخ على ما إذا كانت خطوة رأس شقير إنقاذاً مالياً أم تفريطاً في أصل استراتيجي.
ولفت الخبير الاقتصادي محمد فؤاد أن هذه الخطوة، رغم كونها أداة مالية حديثة، قد تتحول إلى مجرد “تحسين محاسبي” لأرقام الدين وتؤجل الأزمة بدلاً من حلها، إذا لم يتم تنفيذها بشفافية مطلقة وضمن خطة تنموية واضحة.
وأوضح فؤاد لمنصة “MENA”، أن آلية “التصكيك السيادي” التي تنوي الحكومة استخدامها ليست بيعاً مباشراً للأصول، بل هي أداة لتحويل الأراضي غير المستغلة إلى سيولة نقدية عبر إصدار صكوك مقابل حق الانتفاع.
إلا أنه شدد على أن غياب التفاصيل الرسمية حول آلية التنفيذ ونوعية المشروعات المرتبطة بها هو السبب الرئيسي للمخاوف الحالية.
واستشهد فؤاد بتجارب دولية تكشف أن نجاح التصكيك ليس مضموناً. فبينما نجحت دول كالسعودية وماليزيا في توظيف هذه الأداة لتمويل مشاريع إسكان وصحة حقيقية ضمن رؤية واضحة، واجهت دول أخرى كإندونيسيا وباكستان الفشل بسبب غياب خطط استثمارية واضحة وضعف الشفافية، مما أدى إلى فقدان ثقة السوق وتوقف برامجها.
ويرى فؤاد أن الفارق بين النجاح والفشل في هذه التجارب يكمن في ثلاثة عوامل: وجود إطار تنظيمي واضح، وربط التمويل بمشروعات إنتاجية حقيقية، وتوفير شفافية كاملة للمجتمع والمستثمرين.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى إشكالية محاسبية هامة، وهي أن الالتزامات الناتجة عن التصكيك لا تُلغي العبء المالي، بل تعيد تصنيفه فقط من “دين مباشر” إلى “إيجار تمويلي” طويل الأجل.
وقال: “إذا لم تُستخدم العوائد لتحسين الوضع المالي الحقيقي للدولة، كخفض عجز الموازنة أو إقامة أصول مُدرّة للدخل، فلن يتحقق أي تحسن فعلي”.
ولإنجاح التجربة المصرية، اقترح فؤاد خارطة طريق واضحة تتضمن إصدار وثيقة سياسات تحدد الأصول المؤهلة والجهة المسؤولة، والإعلان عن خطة استخدام العوائد في تمويل مشروعات محددة، بالإضافة إلى إنشاء وحدة إدارة مستقلة خاضعة للرقابة ونشر تقارير دورية.
وخلص إلى أن التصكيك ليس أداة سحرية، بل تعتمد بالكامل على طريقة الاستخدام، ومستوى الشفافية، ومدى الارتباط بالتنمية الحقيقية، داعياً إلى صياغة سياسة وطنية واضحة لهذه الأداة المالية الهامة.
اقرأ أيضًا:
هل صفقة الاستحواذ على “رأس الحكمة” تجعلها إمارة خليجية؟
سعي مصري خليجي.. ما جاذبية الاستثمارات في البحر الأحمر؟
جدل حول نزع ملكية شاليهات عجيبة بمطروح لصالح الإمارات
أهداف تنموية وأمنية.. لماذا تنشئ الحكومة مدينة رفح الجديدة؟