في العادة، لا تخوض إسرائيل حروبًا خارج حدودها من دون دعم مباشر من الولايات المتحدة. لكن في عام 1956، تحدّت إرادة الرئيس الأميركي آيزنهاور وخاضت حربًا منفردة… فدفعت الثمن.
في تقرير منسوب لموقع Responsible Statecraft قال الكاتب جيفري أرونسون، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى إلى تسريع وتيرة الحرب ضد إيران، مدفوعًا برغبة في الحصول على دعم أميركي مباشر وهجومي، في لحظة تشهد تراجعًا غير مسبوق في تأييد الرأي العام الأميركي لمثل هذا التدخل.
يُراهن نتنياهو على أن واشنطن ستُضطر في نهاية المطاف إلى التكيّف مع الطموحات الحربية الإسرائيلية، بل وربما تنفيذها عند الحاجة، وفي مقدّمتها تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، والقضاء على قدرات طهران الصاروخية، وحتى الدفع نحو تغيير النظام، ويُنظر على نطاق واسع إلى الدعم الأميركي باعتباره عاملًا حاسمًا في نجاح إسرائيل بتحقيق هذه الأهداف.
من غير المُستبعد أن يكون قرار إسرائيل شنّ الحرب يوم الجمعة 13 يونيو قد جاء نتيجة تفاهم غير مُعلن مع واشنطن، ويتجنّب الطرفان الاعتراف به علنًا في هذه المرحلة. فمنذ حرب يونيو 1967، مرورًا بالعدوان المستمر على غزة، لم تُقدِم إسرائيل على خوض أي حرب دون أن تضمن مسبقًا دعمًا أميركيًا. وفي الحرب الراهنة، كانت واشنطن قد أقرت بالفعل بإسقاط صواريخ إيرانية كانت متجهة نحو إسرائيل.
يبدو القلق الإسرائيلي في محلّه حيال مدى التزام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأهداف تل أبيب في حربها ضد إيران.
عبّر عاموس جلعاد، أحد أبرز مهندسي العلاقات الأمنية بين البلدين وركيزة أساسية في الدولة العميقة التي تحكمها هواجس الأمن، صراحة عن خشيته من أن يكون ترامب صادقًا حين صرّح مبكرًا بأن “الولايات المتحدة لا علاقة لها بالهجوم على إيران”.
وقد حذّر المسؤول الأمني الإسرائيلي البارز عاموس جلعاد من أن افتقار إسرائيل للدعم الأميركي في حربها ضد إيران قد يدفع طهران إلى تصعيد المواجهة، بل وربما تسريع خطاها نحو امتلاك قدرات نووية.
وفي مقابلة مع القناة 12 الإسرائيلية، قال جلعاد: “إذا تُركنا وحدنا، فالإيرانيون سيواصلون المواجهة، وقد يقرر خامنئي تسريع الوصول إلى قدرات نووية. هناك موقع فوردو المدفون عميقًا تحت الأرض، ولا يمكن التعامل معه من دون مساعدة أميركية”، بحسب تعبيره.
وأعرب جلعاد عن قلقه من قدرة إيران على الرد، قائلاً: “قد نصل إلى وضع يواصلون فيه ضربنا. هم يدركون، استنادًا إلى تصريحات سفيرنا في نيويورك، الذي من المفترض أن يُمثّل إسرائيل أن الولايات المتحدة ليست إلى جانبنا.”
وتابع محذرًا من أن طهران قد تستخدم الهجوم الإسرائيلي ذريعة لتطوير سلاح نووي: “في نهاية المطاف، قد تقول إيران: إسرائيل هاجمتنا، ولم يعد أمامنا خيار سوى امتلاك السلاح النووي. وثمن ذلك سيكون هزيمتنا.”
وختم جلعاد بالقول: “الإيرانيون سيقاتلون، وقد يطول أمد المعركة. فهم، من وجهة نظرهم، يعتبرون أن كرامتهم الوطنية قد أُهينت.”
رفض جلعاد التصويرات التي تصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه شخصية غير متوقعة، وقال محذرا: “هذا غير صحيح، لديه منهج واضح، إنه يفضّل أن يقوم الآخرون بالعمل نيابة عنه، سيقاتل حتى آخر جندي إسرائيلي”.
وأضاف: “قد ينضم لاحقًا، لكنه قالها صراحة: لن يتدخل إلا إذا تعرّض جنود أميركيون لهجوم. وهذا لم يحدث.”
وأشار جلعاد إلى مخاوف من أن رئيس الوزراء نتنياهو قد أخطأ في تقدير قدرته على توجيه السياسة الأميركية بما يتماشى مع أهدافه.
وتساءل بلهجة نقدية لاذعة: “ما الذي تفعله القيادة السياسية؟ نحن من بدأ الحرب، والآن نطلب من ترامب أن يتدخّل؟ ولماذا يفعل ذلك؟ هل ترامب مُلزم تجاهنا؟”
حذّر عاموس جلعاد من أن إسرائيل، رغم قدرتها على تحقيق مكاسب في ساحة المعركة، قد تجد نفسها في نهاية المطاف خاسرة على مستوى الحرب الشاملة. وقال: “الإيرانيون عازمون على مواصلة إطلاق الصواريخ، وقد يحتفظون بهذه القدرة في المستقبل. كما أن دولًا كالصين وروسيا قد تُبدي دعمًا لهم.”
ويُظهر استدعاء سريع لدروس الماضي حجم المخاطر الكامنة في خيار التصعيد الأحادي من جانب إسرائيل، انطلاقًا من اعتقاد مفاده أن بإمكانها دفع واشنطن، رغمًا عن مصالحها الاستراتيجية، إلى التدخل عسكريًا لصالحها ضد طهران، بل والمشاركة الفعلية في مسعى إسرائيلي لتدمير البنية التحتية النووية الإيرانية وقدراتها الصاروخية التقليدية.
إنها مغامرة قد تُفضي إلى ما هو أبعد من حرب محدودة، وتجرّ المنطقة إلى صراع لا تملك إسرائيل وحدها مفاتيح التحكم في مساره أو مآلاته.
وأشار الكاتب الكاتب جيفري أرونسون، أن المخاطر المترتبة على عزلة إسرائيل الاستراتيجية خلال الحرب تُعيد التذكير بقرارها المكلف عام 1956، حين شاركت إلى جانب فرنسا وبريطانيا في “العدوان الثلاثي” على مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وهو التحالف الذي انتهى بكارثة سياسية وعسكرية لتل أبيب.
آنذاك، استخدم الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور أدوات ضغط فعّالة ومباشرة لإرغام إسرائيل على الانسحاب من غزة وسيناء، شملت تهديدات بعقوبات اقتصادية، وضغوطًا دبلوماسية مكثفة، وتحركات سياسية حاسمة في المحافل الدولية.
وعندما عطّلت لندن وباريس قرارًا في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار باستخدام “الفيتو”، نقل أيزنهاور الملف إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تبنّت بأغلبية كاسحة قرارًا يُطالب بالانسحاب الفوري.
لم يكتفِ أيزنهاور بذلك، بل هدّد في رسالة سياسية لا تحتمل التأويل، بقطع المساعدات المالية عن إسرائيل، وطرح علنًا احتمال تعليق الإعفاءات الضريبية على التبرعات الأميركية الموجّهة إليها.
وقد برّر موقفه الصارم بالتزامه بمبادئ القانون الدولي ورفض العدوان، مؤكدًا أن ما فعله لم يكن استهدافًا لحلفاء واشنطن، بل دفاعًا عن ميثاق الأمم المتحدة والنظام الدولي القائم على السيادة وعدم التدخل.
وذكر الكاتب الكاتب جيفري أرونسون، أن الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور وجّه رسالة شديدة الوضوح في خطاب صريح ألقاه من المكتب البيضاوي مطلع عام 1957، قال فيها:
“إذا قبلت الأمم المتحدة، ولو لمرة واحدة، بأن تُسوّى النزاعات الدولية باستخدام القوة، فإننا نكون بذلك قد قوّضنا الأساس الذي قامت عليه هذه المنظمة… وأشعر بأنني سأكون غير وفيّ لمقتضيات هذا المنصب الرفيع إذا استخدمت نفوذ الولايات المتحدة لتأييد فكرة مفادها أن دولة تغزو أخرى يمكن أن تُمنح الحق في فرض شروط لانسحابها.”
ورضوخًا لهذا الضغط الأميركي القوي، اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب الكامل من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء في مارس/آذار 1957.
وفي المقابل، حصلت على ضمانات أميركية تؤكّد حرية الملاحة في مضائق تيران، إلى جانب نشر قوة طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة (UNEF) في سيناء، لتكون بمثابة خط فاصل يمنع تفجّر صراع جديد.
وأوضح الكاتب أرونسون، بعد أزمة السويس، أرست السياسات التي تبنّتها واشنطن وعلى رأسها فرض الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المصرية الأساس لصعود الولايات المتحدة كلاعب مهيمن في الشرق الأوسط، ووريث فعلي للنفوذين الفرنسي والبريطاني في المنطقة، وقد حافظت الإدارات الأميركية المتعاقبة على هذا النهج حتى عهد دونالد ترامب.
فإنذار أيزنهاور لإسرائيل شكّل نقطة انطلاق لهيمنة أميركية استمرت لعقود، أما قرار بنيامين نتنياهو بخوض حرب دون تنسيق صريح مع واشنطن، فقد يُمثّل لحظة إخفاق تاريخي في إدراك التحول العميق في أولويات الولايات المتحدة على عتبة مرحلة دولية جديدة.
ورغم ذلك، لا يُستبعد أن تختار إدارة ترامب الانخراط في حملة عسكرية إسرائيلية متوسعة، سعيًا لترسيخ التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي في الإقليم، ولو مؤقتًا.
لكن كما دفعت إسرائيل ثمن تحديها لصعود النفوذ الأميركي في السويس، فقد تجد نفسها اليوم بعد نحو قرن تدفع ثمناً جديداً، هذه المرة لاعتراضها رغبة أميركية في الانكفاء والتراجع.
رابط المصدر:
https://responsiblestatecraft.org/trump-war-iran-israel/