في مفارقة لافتة، تواصل وسائل الإعلام الرسمية في مصر بث خطاب حاد ومعادٍ لإسرائيل على خلفية الحرب الدائرة مع إيران، بينما تتحرك الحكومة في الاتجاه المعاكس، ساعيةً إلى كبح هذا الخطاب بين المواطنين ومحاولة تهدئة الشارع، هذا التباين بين الرسالة الإعلامية المعلنة والسياسات المطبقة على الأرض يعكس حالة من الازدواجية، ويثير تساؤلات حول وحدة الخطاب الرسمي وفاعلية إدارة الدولة للأزمة إعلاميًا وجماهيريًا.
في تقرير منسوب لموقع The National Interest تحدث عن أن لقطة دعائية مثيرة للجدل، نشرت سلسلة مطاعم مصرية شهيرة الأسبوع الماضي صورة ترويجية لطبق الكشري – الوجبة الوطنية الأشهر في مصر – مصممًا على هيئة صاروخ، في مشهد غير معتاد لطبق معروف ببساطته وافتقاده لأي ملامح “نحتية”، ورغم غرابة الفكرة، فإن الصورة، التي يُرجّح أنها صُنعت باستخدام الذكاء الاصطناعي، انتشرت بسرعة في اليوم السادس من العملية العسكرية الإسرائيلية “الأسد الصاعد”، وجرى تفسيرها على نطاق واسع كرسالة دعم رمزية لإيران.
وسارعت وسائل الإعلام الإيرانية المقربة من النظام إلى الاحتفاء بالصورة، وذهبت أبعد من ذلك عبر مزاعم كاذبة بأن إسرائيل هدّدت المطعم بسبب تقديمه وجبات مستوحاة من الصواريخ الإيرانية.
في الوسط المصري، لم تلقَ الصورة انتقادًا يُذكر، بل انسجمت بسلاسة مع المزاج الإعلامي السائد، الذي يعيد رسم الاصطفافات في المنطقة، مقدّمًا إيران كقوة مقاومة جديدة، ويُظهِر إسرائيل كطرف متراجع ومهتز. لكن ما إن بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية تلتقط الموضوع وتعبّر عن امتعاضها – في ظل سلام قائم بين مصر وإسرائيل منذ أكثر من أربعين عامًا – حتى اختفت الصورة فجأة، وأصدر المطعم بيانًا مقتضبًا نفى فيه أي دلالات سياسية للإعلان.
ويشير موقع The National Interest، إلى أن المطعم، المعروف باستقباله للشخصيات الأجنبية والوفود الرسمية، يتمتع بعلاقات وثيقة بالمؤسسة السياسية في البلاد، ما يفتح باب التكهنات بأن سحب الإعلان ربما جاء بتوجيهات رسمية، في محاولة لاحتواء تداعيات دبلوماسية محتملة، وبين صحن كشري وصاروخ، يجد المشهد الإعلامي المصري نفسه مجددًا في قلب معادلة إقليمية معقّدة، تتشابك فيها الرموز مع الرسائل، والوجبات الشعبية مع خرائط النفوذ.
في مصر اليوم، قد تجد من يصفّق علنًا على شاشات التلفزة الرسمية لفكرة تدمير تل أبيب، بينما تُثير صورة لصحن كشري صُمّم على هيئة صاروخ، باستخدام الذكاء الاصطناعي، حرجًا بالغًا قد يضع صاحبها خارج النص المعتمد للدولة، هذا التناقض لم يأتِ من فراغ، بل يعكس ارتباكًا عميقًا في الخطاب الرسمي الذي بات من الصعب تمييز ملامحه: هل المعارضة المسموح بها لا تزال مقبولة؟ أم حتى الولاء قد يخرج عن النص إذا تجاوز الإطار المرسوم؟
لقد كانت الرواية الرسمية في مصر، لعقود، أداة استراتيجية دقيقة التوجيه، لكنها الآن تبدو وقد فقدت بوصلتها، الحادثة التي بدت، للوهلة الأولى، مجرد مزحة دعائية، سرعان ما تحوّلت إلى مؤشر على تصدّع عميق في توازن ظل يحكم السياسة المصرية لسنوات: التوفيق بين لغة الشارع الجارفة والشراكات الإقليمية الدقيقة.
وذكر موقع The National Interest، منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بَنت مصر خطابًا شعبويًا جعل منها منبرًا للمقاومة العربية ضد إسرائيل، خطابًا ارتكز على الشعارات والرمزية، ثم جاء أنور السادات ليقلب المعادلة الواقعية، ويوقّع اتفاقية سلام تاريخية مع إسرائيل في 1979، دون أن يلغِي ميراث الخطاب السابق. وهكذا، تشكّلت صيغة مزدوجة: هجومية في العلن، براغماتية في السر، تلبي احتياجات الداخل دون الإضرار بتحالفات الخارج.
هذه المقاربة خدمت النظام طويلًا، إذ سمحت له بإرضاء الرأي العام من دون المساس بالعلاقات الاستراتيجية، سواء مع إسرائيل أو مع القوى الغربية. لكن الحماسة الشعبية الجارفة التي واكبت عملية “الأسد الصاعد” الإسرائيلية، واحتفاء الشارع المصري بكل ما يرمز للمقاومة – حتى لو في شكل صحن كشري – كشفت أن هذه المعادلة باتت تهتز، ولم يعد إرضاء الرأي العام أمرا سهلا كما في السابق.
“الكشري الصاروخي” لم يكن مجرد صورة ساخرة، بل ناقوس إنذار: التناقض بين ما يقوله الاعلام في العلن، وما يفعله خلف الأبواب المغلقة، لم يعد يسير بسلاسة كما كان. ومع تصاعد الأصوات الشعبوية في الداخل، وتحوّل الرموز اليومية إلى أدوات سياسية، يصبح من المشروع التساؤل: إلى متى يمكن لهذا التوازن المُنهك أن يصمد، قبل أن يُسقطه وزنه الذاتي؟
في مشهد إعلامي يعكس مدى انحياز المنظومة الرسمية للسردية الشعبوية، سارع الإعلام المصري الخاضع لسيطرة الدولة – وهو فعليًا يشمل معظم وسائل الإعلام في البلاد – إلى تحويل الضربات الإسرائيلية الدقيقة التي استهدفت بنى تحتية عسكرية إيرانية، إلى ما يشبه ملحمة انتصار لطهران، في حملة دعائية موجّهة للداخل المصري أكثر من اهتمامها بحقائق الميدان.
وأشار موقع The National Interest، وعلى شاشة “صدى البلد”، تحوّل النقاش سريعًا من تحليل عسكري إلى استعراض للضعف الإسرائيلي المزعوم. الإعلامي أحمد موسى، استضاف في 15 يونيو الدكتور طارق فهمي، المتخصص في الدراسات الاستراتيجية، الذي لم يتردد في القول: “إذا استمر هذا المشهد وتكررت هذه الصور، فلن تصمد إسرائيل في حرب لأسبوع أو عشرة أيام”. وأضاف: “إسرائيل تفتقر إلى العمق الاستراتيجي في مواجهة ممتدة مع إيران”.
أما عبد المنعم سعيد، الكاتب المعروف، فقد رفع منسوب التصعيد الخطابي، واصفًا ما جرى بأنه “صدمة وكارثة” تلقتها إسرائيل، مشددًا على أن “إيران في موقع الجاهزية الكاملة”.
في ذات السياق، تبنّى الإعلامي عمرو أديب على برنامجه “الحكاية” – أحد أكثر البرامج مشاهدة في مصر – الخط نفسه، ففي حلقة 13 يونيو، أعلن بصوت درامي: “الرد الإيراني بدأ… ليلة موجعة، نارية، ومقلقة لكل سكان إسرائيل. لكل من تساءل عن جدية طهران… الرد الآن يُبَثّ حيًا على الهواء”.
الصحافة الرسمية لم تتخلف عن الركب؛ فقد جاءت تغطية جريدة “الأهرام”، الأوسع انتشارًا والأقرب لمطبخ القرار، منحازة بالكامل للرواية الإيرانية، إذ خصصت مساحات واسعة لما اعتبرته “نجاحات ميدانية” لطهران، متجاهلة إلى حد كبير الضربات الإسرائيلية الدقيقة التي طالت مواقع حساسة للحرس الثوري.
وأوضح موقع The National Interest، هكذا بدا المشهد الإعلامي المصري أشبه بجوقة واحدة تُعيد تدوير سردية منتقاة بعناية: إيران تُهاجم بقوة، وإسرائيل في موقف ضعيف، وهي رواية قد تروق للشارع المتعطّش لخطاب المقاومة، لكنها تفتح الباب أمام تساؤلات حول حدود التناغم بين هذه النبرة الإعلامية الحادة، والسياسات الخارجية الهادئة التي تحرص القاهرة على الموازنة بها بين طهران وتل أبيب.
الاحتفاء المبالغ فيه بعمليات إيران العسكرية في الإعلام المصري لا يبدو مجرد حماسة عابرة، بل يعكس تحولًا مقلقًا في الخطاب، لا سيما أن طهران لم تكن يومًا حليفًا محتملاً في الحسابات المصرية، فمنذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، قطعت القاهرة علاقاتها مع طهران ولم تُعِدها، وظل التوجّس من المشروع الإيراني ثابتًا في صلب السياسة الخارجية المصرية لعقود.
طوال تلك السنوات، وقفت مصر بوضوح ضد البرنامج النووي الإيراني، وانحازت إلى معسكر الخليج العربي في مواجهة نفوذ طهران، وساندت الأطراف المناهضة لها في معظم النزاعات الإقليمية، من دمشق إلى صنعاء. والأسوأ، أن مصر دفعت ثمنًا اقتصاديًا باهظًا من جرّاء أنشطة الأذرع الإيرانية، وعلى رأسها الحوثيون الذين كبّدوا القاهرة خسائر تقدّر بـ7 مليارات دولار في عام 2024 وحده، نتيجة لهجماتهم على الملاحة في البحر الأحمر وعبر قناة السويس.
ورغم بعض المؤشرات الدبلوماسية الطفيفة، كاجتماع وزيري خارجية مصر وإيران في 1 يونيو، لم تتجاوز العلاقة بين البلدين عتبة الحذر المتبادل، ومع ذلك، يتصدر اليوم خطاب إعلامي جديد يروّج لإيران باعتبارها “قوة مقاومة”، ويُقدّمها في صورة البطل، في تناقض صارخ مع المصالح القومية المصرية.
لقد فاز المزاج الشعبوي، مرة أخرى، على لغة المصالح. فالرغبة في تسجيل نقاط سياسية ضد إسرائيل، وسط جمهور متعطّش لأي انتصار رمزي، دفعت النظام إلى التغاضي عن تناقض خطابه، بل والترويج لرواية تتعارض مع أولوياته الاستراتيجية.
ويشير موقع The National Interest، في زحمة هذا السيل الدعائي، تبرز أصوات نادرة تغرّد خارج السرب. من بينها الإعلامي إبراهيم عيسى، أحد القلائل الذين حذّروا من الانسياق خلف خطاب طهران، وانتقدوا حماس بشكل علني، ورفضوا تبرير هجوم 7 أكتوبر 2023. عيسى يقدّم نموذجًا مختلفًا لخطاب وطني ناقد، لا يصطف مع إسرائيل ولا مع أعدائها، بل يدعو إلى رؤية مستقلة تحترم مصلحة الدولة أولاً. لكن في مشهد إعلامي مغلق وعاطفي، تبدو مثل هذه الأصوات وكأنها نشاز في لحن جماعي صاخب.
المشكلة لم تعد في الدعاية بحد ذاتها، بل في حالة الالتباس التي تخلقها. فعندما يمتدح الإعلام المصري قوة تُهدد أمنه القومي، وتُضعف اقتصاده، وتُناقض أهدافه الإقليمية، تصبح الرسالة مشوشة إلى حدّ الخطورة، وما كان يُدار في السابق كاستراتيجية مزدوجة بين الخطاب العلني والتحالفات الخفية، يقترب اليوم من حالة من اللااتساق الكامل.
وما هو أخطر، أن ينتقل هذا الارتباك من الخطاب إلى السياسة. إذ يؤدي تمييع الحدود بين المقاومة الرمزية والتحالف الفعلي، إلى الإضرار بصورة مصر الدولية، وإضعاف مكانتها الإقليمية، وربما إعطاء إشارات خاطئة لحلفاء لا يشاركونها رؤيتها ولا مصالحها.
في منطقة تُبنى فيها التحالفات على الانطباعات بقدر ما تُبنى على المصالح، لم يعد الغموض المصري لعبة ذكية، لقد تحوّل إلى عبء سياسي وإعلامي، وربما دبلوماسي في القريب العاجل.
رابط المصدر:
https://nationalinterest.org/blog/middle-east-watch/egypts-televised-confusion#