الشارع المصري

الإعلام الرسمي.. من تنظيم الخطاب إلى تنوع الأصوات

يقال في مصر، لا يُولد الخبر من رحم الحدث، بل يُفصَّل على مقاس الجهة التي تملك الكلمة العليا. من خلف الشاشات اللامعة، وبين أسطر “السكريبت” المُعدّ بعناية، تقبع أيادٍ خفية تمسك بخيوط الحكاية، توجّه الكاميرات، وتختار ملامح المذيعين، وتحدّد نبرة الصوت، وما يُقال وما يُدفن في صمت. هل نحن أمام مشهد إعلامي لا تُصاغ فيه الرسالة بحرية الصحفي، بل بإملاءات الآخر؟ حيث تتحوّل النشرات إلى نشرات أوامر، والبرامج إلى منصات للتوجيه، لا للتنوير.

 

لا يُدار الإعلام من داخل استوديوهاته، بل من مكاتب مغلقة لا تُرى، يتلقى فيها “المنتج” تعليماته عبر هاتف لا يُسجَّل، وتُرسل فيها الأوامر عبر وسيط لا يترك أثرًا. من هم هؤلاء؟ ما هي صفاتهم؟ وبأي صفة يقرّرون ما يُبث وما يُمنع؟ وما حدود سلطة الصحفي إذا تجاوز السطر المسموح به؟ في هذا التحقيق، نفتح أبواب الكواليس التي لم يُسمح من قبل بكشفها، ونبحث عن الحقيقة المدفونة تحت رُكام “التوجيه”، خصوصا مع رصد المخالفات بعد انتهاء انتخابات نقابة الصحفيين، بفوز النقيب خالد البلشي بفترة نقابية جديدة.

 

وفيما يُدار المشهد الإعلامي بتنسيق خفيٍّ محكم، تشتعل جبهة موازية داخل نقابة الصحفيين، حيث لا يخلو السباق الانتخابي من الأيادي ذاتها. فتارة تُستخدم البرامج لتلميع مرشّح، وتارة لتشويه آخر. والنتيجة أن تكون النقابة مشلولة، والصحفيين في مرمى النيران، وبعضهم لا يجد حتى مساحة للكتابة عن المعركة التي يخوضها. فمن يقود هذه الحرب الناعمة؟ ومن المستفيد من إخماد صوت الصحافة في زمنٍ لا يحتمل الصمت؟

 

صناعة الإعلام المُوجَّه

 

إن تأثير النفوذ في صناعة الإعلام لا يتوقف عند حدود التوجيهات غير المعلنة، بل يمتد إلى محاولات تشويه الخصوم باستخدام أساليب مغرضة وغير أخلاقية. ففي قلب تلك الصراعات داخل نقابة الصحفيين، يكشف حديث الصحفيين والصحفيات الذين تواصلنا معهم عن واقع مؤلم، حيث تحوّلت الانتخابات النقابية إلى ساحة حرب يُستخدم فيها الكذب والتهم الملفقة لإضعاف المنافسين. وأكدوا أن محاولات تشويه سمعة بعض المرشحين تمثل أحد أوجه استغلال النفوذ داخل المؤسسات الإعلامية، وهو ما يضع النقابة على حافة الانهيار إذا استمرت هذه الممارسات دون رادع.

 

يرى أحد المسؤولين في حملة نقيب الصحفيين خالد البلشي، مفضلًا عدم ذكر اسمه، أن الصحافة في مصر تشهد تراجعًا ملحوظًا على عدة مستويات، بدءًا من تضييق إجراءات الترخيص وإصدار المطبوعات والمواقع الإلكترونية، مرورًا بالسيطرة الواسعة على المحتوى، وصولًا إلى المنع المنهجي لتداول المعلومات، ومنع الصحفيين من الوصول إلى مصادرهم. وأضاف في تصريحات لمنصة “MENA“، أن وضع الصحافة في مصر “ليس جيدًا على الإطلاق”، مؤكدًا أن “القيود المفروضة على حرية الإصدار باتت تشكّل حاجزًا رئيسيًا أمام تطور المهنة”.

 

يوضح المصدر أن هناك أزمة هيكلية في منظومة إصدار الصحف والمواقع، حيث إن القانون الحالي لا يعترف بالإخطار كوسيلة للإصدار، بل يشترط الحصول على موافقة مسبقة من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ما يحرم الكثير من المبادرات الإعلامية الجديدة من الظهور، أو يُجمّدها لفترات طويلة دون ردّ.

 

وأضاف: “فيما مضى، وخصوصًا بعد ثورة يناير، كان إصدار الصحف يتم بمجرد الإخطار، وإذا لم يصدر رد خلال 60 أو 90 يومًا، تُعتبر الموافقة ضمنية. أما الآن، فالقانون يشترط موافقة مباشرة، وإلا يُعتبر النشر غير قانوني، ما يعرّض القائمين على المؤسسات لمخاطر قانونية”.

 

سوق مضاد للاستثمار

 

وأشار إلى أن سوق الصحافة في مصر “لم يعد سوقًا جاذبًا للاستثمار”، بسبب سيطرة الدولة على معظم الصحف القومية والمستقلة والحزبية، وتقييد حرية التعبير والتحليل، موضحًا أن “غالبية الصحف أصبحت تكرّر العناوين نفسها، وتنقل الروايات الرسمية دون إضافة أو تحليل، ما دفع الجمهور إلى العزوف عن قراءتها واللجوء إلى مصادر بديلة”. كما أن الأزمة الحقيقية تتمثّل في غياب حرية تداول المعلومات، لافتًا إلى أنه “منذ عام 2017، صدرت توجيهات من مختلف الهيئات الحكومية تمنع نشر البيانات أو التصريحات الرسمية”.

 

وأضاف: “المعلومات باتت تُحجب من المنبع، إذ ترفض الوزارات والجهات السيادية التعاون مع الصحفيين أو إصدار بيانات رسمية، وحتى المحاكم نادرًا ما تنشر أي توضيحات أو بيانات للصحافة”. ولم تقتصر الأزمة على حجب المعلومات فقط، بل امتدت إلى منع الصحفيين من التواجد الميداني، إذ أصبحت التغطيات تقتصر على مؤتمرات معدّة سلفًا أو بيانات تُرسل عبر وسائل التواصل، دون إتاحة الفرصة للحضور في المحاكم أو مواقع الأحداث.

 

“حتى عندما يحاول الصحفي النزول وجمع المعلومات بنفسه يتعرض لمنع التصوير أو للمساءلة القانونية في حال لم يحصل على تصريح رسمي مسبق”، يوضح المصدر، محذرًا من أن هذه الأوضاع تفتح الباب أمام انفجار مصادر المعلومات البديلة، التي غالبًا ما تصدر من خارج مصر، وتحمل أجندات مشبوهة. وقال: “حين تفقد الصحافة دورها كمصدر رئيسي للمعلومات، يلجأ الناس إلى منصات أخرى، قد تكون غير شرعية، وتبث محتويات غير دقيقة أو مغرضة، وهذا لا يمثل فقط خطرًا على وعي المواطن، بل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي”.

 

ودعا المصدر إلى ضرورة مراجعة السياسات الإعلامية، وتحرير سوق الصحافة من القيود التي تُفرغها من مضمونها، معتبرًا أن: “حرية الإصدار، وتداول المعلومات، والسماح للصحفيين بممارسة دورهم المهني بأمان، ليست فقط مطالب نقابية، بل هي جزء لا يتجزأ من حماية الأمن القومي وضمان استقرار المجتمع”.

 

كواليس “الدعم السلطوي” لسلامة

 

يسترسل أحد أعضاء حملة نقيب الصحفيين المنتخب خالد البلشي، متحدثًا عن أن الانتخابات الأخيرة شهدت ممارسات مكثفة لدعم مرشّح الدولة عبد المحسن سلامة، من أطراف نافذة داخل السلطة، مؤكدًا أن ما جرى لم يكن تعبيرًا عن منافسة نزيهة بقدر ما كان محاولة لفرض مرشّح بعينه من خارج النقابة. وأوضح أن “سلامة كان يحظى بدعم واضح من السلطة، سواء عبر لقاءات جمعته بمسؤولين ووزراء، أو من خلال دعم مباشر من أحزاب موالية فتحت له الأبواب وسهّلت له الوصول إلى الناخبين بكل الوسائل الممكنة، في مشهد يعكس رضا الجهات النافذة عنه أكثر من كونه دعمًا شعبيًا حقيقيًا داخل الجماعة الصحفية”.

 

وأضاف: “الانتخابات شهدت تجاوزات كبيرة، من دعاية سوداء واستخدام أساليب ترهيب، إلى وعود انتخابية غير واقعية وأشكال من الرشى، خصوصًا في بعض المؤسسات الصحفية التي مورست فيها ضغوط واضحة على الزملاء لحضور مؤتمرات مرشّح الدولة والتصويت له، بتوجيهات من رؤساء التحرير، وهو ما أُشير إليه في أكثر من اجتماع”، مشيرًا إلى أن أبرز مظاهر الحشد ظهرت في المحافظات، قائلاً: “حزب مستقبل وطن نظّم عمليات حشد واسعة، وتم نقل الصحفيين في حافلات فاخرة، واستضافتهم في فنادق، لتوجيههم بشكل مباشر نحو التصويت لعبد المحسن سلامة، وكانت تلك الممارسات تهدف إلى إبهارهم لا إلى إقناعهم”.

 

 

الإبهار المصطنع

 

انتقد أحد المسؤولين في حملة نقيب الصحفيين هذه الأساليب، قائلًا: “الصحفيون لا يجذبهم الإبهار المصطنع، بل يستفزهم. هذه مهنة رأي ووعي، ومن يلتحق بها من أجل المال فقط، يكون قد أخطأ الاختيار. الصحافة ليست مهنة من يدخلها طلبًا للرفاهية، بل هي أداء لدور مجتمعي ورسالة لا تتحقق إلا بحرية ومسؤولية”.

 

وعن مستقبل العمل النقابي في الفترة المقبلة، قال: “يجب ألا ننسى أن هناك صراعًا تاريخيًا بين الصحافة والسلطة. حتى في أكثر الدول ديمقراطية، لا تحب الحكومات الصحافة الناقدة. لكن التغيير لا يأتي بالقفزات، بل بالتراكم. ما نطمح إليه هو تحقيق خطوات صغيرة، ننتقل بها من مربع الصفر إلى مربع 2 أو 3، وهذا في حد ذاته مكسب”.

 

وختم تصريحاته قائلًا: “وجود خالد البلشي في موقع النقيب لا يعني نهاية المعركة، لكنه يفتح نافذة لتفاوض حقيقي على حقوق الجماعة الصحفية. وحتى بعد انتهاء فترته بعد عامين، يجب أن تظل هذه الملفات مفتوحة، فالمعركة على حرية الصحافة لا تنتهي بولاية، بل هي نضال مستمر”.

 

وترى الصحفية م.م، كاشفةً محاولات ممنهجة لتشويه سمعة بعض المرشحين في انتخابات النقابة: “تم الترويج لأكاذيب حول الزميل هشام يونس، متهمين إياه بالاستفادة من منصبه للحصول على شقتين، وهو أمر لم يحدث مطلقًا”.

 

وتضيف: “طالت حملة التشويه أيضًا الزميل خالد البلشي، حيث أشيع عنه امتلاكه مزرعة أو تسهيله دخول صحفية إلى المطبعة بطرق غير قانونية. وهذه الاتهامات، كما تؤكد، لم تكن سوى محاولات لزعزعة موقف البلشي وتدعيم مرشحين آخرين عبر الكذب وتوجيه الأنظار إلى أمور لا أساس لها من الصحة”.

 

رقابة على المحتوى اليومي

 

فيما يقول الكاتب الصحفي في موقع “المنصة”، ناصر عبد الحميد، إن سيطرة الدولة على الإعلام وصلت مؤخرًا إلى مستويات غير مسبوقة، موضحًا أن “الرقابة لم تعد تقتصر على السياسات العامة للوسيلة الإعلامية، بل امتدت لتشمل المحتوى اليومي، من العناوين إلى أسلوب التناول، وحتى وتيرة النشر”.

 

ويضيف في تصريحاته لمنصة “MENA“: “التواصل بين مسؤولي الدولة والقائمين على إدارة الصحف والقنوات بات دائمًا، ولا يخفى على أحد أن هناك توجيهات مستمرة تُلقى على صنّاع المحتوى في كل تفاصيل العمل الإعلامي، ولم تعد مجرد توصيات سياسية عامة”.

 

وأشار إلى أن انتخابات نقابة الصحفيين الأخيرة كشفت بوضوح حجم هذا التوجيه، قائلًا: “الدولة دعمت مرشحًا بعينه على حساب الباقين، وكان هذا واضحًا للغاية، حيث استخدمت الصحف القومية، التي تخضع لملكيتها وإدارتها، كأدوات في المعركة الانتخابية، وتم توجيه الصحفيين العاملين فيها صراحة لدعم مرشحين محددين”.

 

واعتبر عبد الحميد أن “ما جرى يتجاوز مجرد التوجيه الإعلامي التقليدي، ويدخل في نطاق التحكم الفعلي في إرادة الصحفيين، حتى في شأن مهني بحت يتعلق بنقابتهم. لم تعد المسألة مقتصرة على الضغط السياسي، بل أصبحت تدخلًا مباشرًا في قرار الجماعة الصحفية”.

 

اقرأ أيضًا:

 

مرشحي انتخابات الصحفيين لـ”MENA”.. البلشي: الأكثر تواصلاً مع النظام.. وعبد الحفيظ: طفرة في التدريب

 

بعد 22 عاما من الجمود.. ماذا ننتظر من قانون العمل الجديد؟

 

تحدي التهجير.. إلغاء زيارة السيسي للبيت الأبيض

 

الدستورية العليا تنتصر لحرية الصحفيين

 

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية