ترجمات

المثلث الليبي-السوداني: جبهة خلفية جديدة لحرب متصاعدة واضطرابات إقليمية

لم تعد سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر مجرّد إنجاز عسكري؛ بل تمثّل منعطفًا حاسمًا في مسار صراع يتّسع نطاقه ويتحوّل تدريجيًا إلى أزمة إقليمية خارجة عن السيطرة. هذا المثلث لم يعد مجرد منطقة نائية، بل غدا مرتكزًا رئيسيًا لشبكات التهريب، وساحة للحروب بالوكالة، وبؤرة تتفاقم فيها الكوارث الإنسانية وسط فراغ أمني وسياسي مقلق.

 

في تقرير للمعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية يشير إلى أن سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، ليس مجرد إنجاز عسكري على المستوى الجغرافي، بل قفزة نوعية حاسمة في موازينها الاستراتيجية. ففي سياق صراع باتت تحكمه منطق الحروب بالوكالة، يتيح هذا المعبر الجغرافي الحيوي المعروف تاريخيًّا كمركز لتهريب السلاح والبضائع لهذه الجماعة شبه العسكرية، بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، أن تؤسس فعليًا خط إمداد عسكري خارجي كامل الأركان، يعزز من قدراتها الميدانية ويمنحها بعدًا إقليميًّا جديدًا في إدارة المعركة.

 

ليبيا كجبهة خلفية مسلّحة

 

يوضح المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية، يتعزز المحور مع شرق ليبيا الخاضعة لسيطرة اللواء خليفة حفتر، وتؤدي الميليشيات المرتبطة بالجيش الوطني الليبي، وعلى رأسها كتيبة “سُبُل السلام” المتمركزة في الكُفرة، دور الميسّر الرئيسي لشبكة الإمداد اللوجستي، هذه الكتيبة، المتورطة تاريخيًّا في تهريب الأسلحة والوقود والبشر، تنشط تحت مظلة سلطة حفتر، ويُشتبه في تلقيها تمويلًا مباشرًا من دولة الإمارات العربية المتحدة، ما يُعدّ عاملًا محوريًا في تسليح قوات الدعم السريع ضمن مثلث الدعم.

 

 

الآثار العملياتية

 

يُوفر هذا الممر الحدودي إمدادات مباشرة بالذخائر، والعربات المدرعة الخفيفة، والطائرات المسيّرة التكتيكية، متجاوزًا المناطق الوسطى التي لا تزال تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية، كما تتحوّل الحدود الشمالية الغربية للسودان إلى جبهة خلفية آمنة، قادرة على استيعاب معسكرات تدريب، ومستودعات للوقود، وممرات إخلاء طارئة، ويتزايد خطر لجوء قوات الدعم السريع إلى استقطاب مرتزقة ليبيين أو تشاديين، في إطار صفقات مالية أو تحالفات ظرفية.

 

المثلث الإماراتي – الليبي – قوات الدعم السريع

 

وذكر المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية، يُشتبه في أن الإمارات العربية المتحدة، التي تدعم حفتر في ليبيا وقوات الدعم السريع في السودان، بانتهاج استراتيجية تقوم على الهيمنة عبر الوكلاء في إقليم الساحل والقرن الأفريقي، ومن خلال مسار ثلاثي معقّد يبدأ من دبي ويمر عبر بنغازي والكُفرة وصولًا إلى دارفور، تصل الأسلحة ورؤوس الأموال إلى عمق الأراضي السودانية، متجاوزة أنظمة الرقابة الدولية، ومغذيةً منظومة حرب دائمة يصعب كبحها.

 

التفوق اللوجستي الذي بات في متناول قوات الدعم السريع قد يفضي، على المدى المتوسط، إلى قلب موازين القوة، خاصة إذا تمكّنت من ترسيخ سيطرتها على الحدود مع تشاد. كما تسهم حرب الطائرات المسيّرة، والدعم التكتيكي عبر الأقمار الصناعية، وشبكات تجنيد المرتزقة، في تعزيز ما بات يُعرف بـ”العسكرة اللامركزية”، وهي ظاهرة تُقوّض قدرة القوات النظامية السودانية وشركائها الإقليميين على الردع والاحتواء.

 

تورط خارجي: ليبيا، والإمارات، ،مصر، ،تركيا

 

وأشار المعهد الإيطالي إلى أن الصراع السوداني تجاوز منذ زمن حدوده الوطنية، ليتحوّل إلى ساحة إقليمية مفتوحة تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية لعدد من القوى الفاعلة، غالبًا بطرق غير مباشرة لكنها شديدة التأثير، وقد فاقمت سيطرة قوات الدعم السريع على الممر الحدودي الثلاثي من حدة المخاوف لدى الدول المجاورة، التي باتت منخرطة في هذا النزاع – سواء بشكل مباشر أو عبر وكلاء – في مشهد تتزايد فيه تعقيدات الحرب وتشابكاتها الإقليمية.

 

ليبيا (الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر)

 

تشكل المنطقة الشرقية من ليبيا، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، محورًا أساسيًا في إعادة بناء البنية اللوجستية لقوات الدعم السريع، ورغم نفي قيادة حفتر لأي تورط مباشر في النزاع السوداني، فإن الشواهد على وجود تنسيق لوجستي وعسكري وميداني مع فصائل سودانية تثير شبهات جدّية حول مستوى هذا الانخراط. ويتيح هذا الامتداد الجغرافي لقوات الدعم السريع الوصول إلى جبهة خلفية مستقرة تُستخدم لنقل الأسلحة والمركبات والعناصر المقاتلة، فالعلاقة الضبابية بين حفتر والدعم السريع تعكس نمطًا من التحالفات التي تُدار خلف الكواليس، حيث يُقدَّم الدعم السياسي والعسكري دون الإفصاح العلني، في إطار ما يُعرف بـ”الإنكار الاستراتيجي”.

 

الإمارات العربية المتحدة

 

وأشار المعهد إلى أن الإمارات تُعدّ لاعبًا خارج الإقليم، لكنها تتمتع بنفوذ حاسم ومتزايد، في ظل سياسة واضحة لتمديد نفوذها الاستراتيجي في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل. وقد مهّد دعمها المالي واللوجستي لخليفة حفتر في ليبيا الطريق أمام إنشاء مثلث دعم غير مباشر لقوات الدعم السريع في السودان. وتُرجَّح فرضية توريد الأسلحة عبر قنوات غير شفافة ووسطاء غير حكوميين، ما يعزّز القدرات القتالية للدعم السريع، ويمكّنها من الحفاظ على زخم ميداني وتوسيع مناطق نفوذها، ويبدو أن الاستراتيجية الإماراتية تقوم على هدف مزدوج:

أولًا، الحدّ من تمدد القوى الإسلامية في الإقليم؛ وثانيًا، ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية فاعلة قادرة على التأثير في مسارات النزاعات داخل القارة الأفريقية.

 

مصر

 

لطالما حافظت القاهرة على تحالف استراتيجي متين مع القوات المسلحة السودانية، مدفوعًا بعوامل الجوار الجغرافي، والتنسيق العسكري الثنائي، والتلاقي في المواقف المناهضة للتيارات الإسلامية المتطرفة، وتُعدّ التحركات الأخيرة لقوات الدعم السريع باتجاه الحدود المصرية تطورًا مقلقًا يُنظر إليه في مصر كتهديد مباشر للأمن القومي، سواء من الزاوية العسكرية أو من حيث احتمالات تدفّق موجات نزوح جديدة. كما يُثير احتمال زعزعة استقرار جنوب مصر، بالتوازي مع إمكان سيطرة جهات مسلحة غير نظامية على مسارات التهريب نحو البحر المتوسط، كل تلك تعد هواجس أمنية متزايدة، قد تدفع القاهرة إلى توسيع نطاق تدخلها في النزاع، ولو على شكل دعم لوجستي أو استخباراتي للقوات النظامية السودانية.

 

تركيا

 

تنتهج أنقرة سياسة نفوذ إقليمي ترتكز على دعم الأحزاب الإسلامية المعتدلة والحكومات ذات الشرعية الانتخابية، خصوصًا في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي. وتُثير المكاسب الميدانية التي تحققها قوات الدعم السريع – التي تُصنَّف في بعض الأوساط التركية كقوة غير شرعية مدعومة من خصوم إقليميين – مخاوف من تنامي نفوذ الجماعات السلفية أو الشبكات المتطرفة المعادية للمصالح التركية في كل من ليبيا والسودان، ورغم أن أنقرة لا تُعدّ طرفًا مباشرًا في الصراع السوداني، فإن تقاطع مصالحها مع مصر، والإمارات، وليبيا، قد يدفعها إلى تبني موقف أكثر حسمًا، خصوصًا إذا ما انعكست تداعيات الحرب الأهلية السودانية على توازناتها الاستراتيجية في شمال شرق إفريقيا أو على مصالحها الاقتصادية في البحر الأحمر.

 

 

الأمن الإقليمي والجريمة العابرة للحدود

 

ويشير المعهد إلى أن تُدخل سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر عنصرًا بالغ الخطورة على توازنات الأمن الإقليمي. فهذه المنطقة، التي تتسم بضعف الحضور السيادي وبتاريخ طويل من الأنشطة غير المشروعة، تُعدّ إحدى النقاط الساخنة الأكثر هشاشة في شرق منطقة الساحل، واستيلاء فاعل مسلّح من خارج الدولة على هذا الحيز الجغرافي لا يُهدد فقط استقرار الدول المجاورة، بل يُنذر أيضًا بفتح جبهة جديدة من المخاطر الأمنية قد تمتد تداعياتها إلى عمق الحوض المتوسطي.

 

 

الجريمة المنظمة والشبكات غير النظامية

 

يرتبط هذا المثلث تاريخيًا بشبكات متجذّرة في تهريب الوقود والأسلحة الخفيفة والبضائع، وبشكل خاص الاتجار بالبشر. وفي ظل سيطرة قوات الدعم السريع، لا يُتوقّع تفكيك هذه الشبكات، بل إعادة تنظيمها في إطار غير رسمي ذي طابع عسكري. فالميليشيا قد توظّف هذه المنظومات غير القانونية كمصدر تمويل بديل، وكأداة لبناء تحالفات محلية، وتثبيت السيطرة الميدانية من خلال أنماط من الاحتواء الاقتصادي والاجتماعي، تُعيد إنتاج نفوذها ضمن منطق الدولة الغائبة.

 

تدفّقات الهجرة غير المنظّمة

 

يفتح غياب سلطة دولة معترف بها على الممرّ الصحراوي السوداني الباب أمام تشكّل مسارات جديدة للهجرة غير النظامية باتجاه الشمال. ومع غياب الرقابة، تتحوّل الطريق الممتدة من السودان عبر ليبيا وصولًا إلى أوروبا إلى محور رئيسي لعبور المهاجرين غير الشرعيين، سواء بدافع الحاجة الاقتصادية أو فرارًا من دوّامة العنف والصراعات. هذا الواقع المستجدّ ينذر بتصاعد الضغط على الحدود الجنوبية لكل من مصر وليبيا، قبل أن يصل تأثيره إلى دول أوروبا المطلة على المتوسط، الأمر الذي يهدّد بعرقلة الجهود التي تبذلها هذه الدول في ضبط الحدود ومكافحة الهجرة غير الشرعية، ويضع استراتيجياتها الأمنية على المحك.

 

مخاطر على استقرار الدول

 

يشكل تصاعد نفوذ جماعات مسلّحة مثل قوات الدعم السريع في المناطق الحيوية من الشبكات العابرة للحدود تهديدًا مباشرًا لسلطة الدول المركزية في الإقليم. فمصر، على سبيل المثال، باتت أكثر عرضة لاحتمالات التسلل والتهريب وتدهور الأمن في محافظاتها الجنوبية. وفي ليبيا، حيث لا تزال البلاد من دون سلطة موحّدة وفعالة، تبدو مناطق الجنوب على حافة موجة جديدة من التفكك والانفلات، وسط فراغ أمني وعسكري متزايد، أما على المستوى الإقليمي الأوسع، فإن انتشار مراكز قوى غير رسمية يقوّض بشكل جذري قدرة الحكومات على احتكار استخدام القوة الشرعية، ويُضعف إمكانياتها في إدارة الديناميكيات المعقدة المرتبطة بالحدود المشتركة والجريمة المنظمة والنزوح العابر للدول.

 

تقاطع الحرب والجريمة

 

وجار المعهد الإيطالي بأن التداخل المتزايد بين الصراع المسلّح والشبكات الإجرامية يتحوّل إلى ما يشبه “الهجين” بين ساحة قتال ومسرح لأنشطة غير مشروعة. فبفضل موقعها الاستراتيجي، قد تستثمر قوات الدعم السريع هذا التقاطع لتوليف سيطرة عسكرية فعلية مع أنشطة اقتصادية غير قانونية، مما يفضي إلى نشوء نظام حكم فعلي خارج إطار المؤسسات الشرعية، ويشكّل هذا التداخل بين الميليشيا والجريمة المنظمة تهديدًا طويل الأمد للأمن الإقليمي، إذ يُعقّد جهود التهدئة، ويقوّض أي مسار جاد لإعادة بناء الدولة واستعادة الشرعية المؤسسية.

 

البُعد الإنساني والاضطراب المحلي

 

تُفاقم التوسعات الميدانية المتسارعة التي تحققها قوات الدعم السريع، ولا سيما في المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية حدةً على مستوى العالم، فقد أفرزت الحرب المستمرة أعدادًا هائلة من النازحين داخليًا واللاجئين خارج البلاد، ضمن مشهد يرزح أصلًا تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، وانعدام البنية التحتية، وغياب أي سلطة مركزية قادرة على إدارة الأزمة. وتضاعف هذه الديناميكية من هشاشة الوضع المحلي، وتُعيد إنتاج الفوضى على حساب أي أفق للاستقرار أو الإغاثة.

 

تزايد الضغط الناتج عن موجات النزوح

 

مع تجاوز عدد النازحين بسبب أعمال العنف في السودان حاجز 13 مليون شخص، يلوح في الأفق خطر تفجّر موجات جديدة من التهجير القسري، بفعل تمدّد قوات الدعم السريع في مواقع استراتيجية حساسة. ويُسهّل انكشاف المعابر الحدودية الشمالية سلوك طرق الفرار نحو مصر وتشاد وليبيا، ما من شأنه أن يولّد ضغوطًا معقّدة على هذه الدول، سواء من الناحية اللوجستية في ما يتعلّق بإدارة مخيمات اللاجئين، وتوفير الخدمات الصحية والغذائية أو من الناحية السياسية، بما يفرض تحديات على استقرارها الداخلي، وتُعدّ المناطق الحدودية الأقل تجهيزًا الأكثر عرضة للانهيار السريع، تحت وطأة التدفق البشري المفاجئ والضاغط.

 

شلل في الوصول الإنساني

 

في ظل الفراغ المؤسسي المتفاقم وانتشار السلاح، تتقلّص المساحات الآمنة أمام المنظمات الإنسانية، وتتراجع قدرتها على إيصال المساعدات الحيوية. فقد باتت قوافل الإغاثة مهددة بالقطع، والمخازن الغذائية عرضة للنهب، والمرافق الطبية إما مدمّرة أو خاضعة لسيطرة مسلحة. هذه الفوضى الأمنية لا تحرم السكان من أبسط حقوقهم فحسب، بل تُقوّض أيضًا إيصال الاحتياجات الأساسية من مياه صالحة للشرب، وأدوية، ومواد غذائية، خاصة في المناطق الريفية والنائية، حيث تتسارع وتيرة الانهيار الخدمي والاجتماعي بشكل مقلق.

 

 

أزمة غذائية تلوح بالمجاعة

 

تقبع مناطق واسعة من السودان في قلب أزمة غذائية حادّة، إذ باتت تعاني من انعدام أمن غذائي بالغ الخطورة. فقد تراجعت الأنشطة الزراعية إلى أدنى مستوياتها، بل توقفت تمامًا في كثير من المناطق، بينما فقدت الأسواق المحلية قدرتها على العمل، وسط تضخّم جامح جعل أبسط السلع الأساسية خارج متناول الغالبية الساحقة من السكان. ومع اتساع رقعة النزاع نحو مناطق زراعية ومحاور تجارية جديدة، يلوح في الأفق خطر انفجار مجاعة حقيقية. وفي ظل غياب تدخل دولي منسّق، واستمرار غياب الاستقرار السياسي، تبدو الظروف المعيشية ماضية في التدهور بوتيرة سريعة، ما ينذر بكارثة إنسانية قد تتجاوز حدود السودان.

 

تشظّي النسيج الاجتماعي

 

لا تقتصر تداعيات الحرب على الخراب المادي، بل تتسلل عميقًا إلى بنية المجتمع، مخلّفة تمزقًا متسارعًا في نسيجه الاجتماعي. فقد أعادت الحرب إحياء الانقسامات الإثنية والقبلية والمناطقية، وعمّقتها من خلال أنماط التجنيد القسري، والثأر المحلي، ومنطق البقاء القائم على العسكرة. وفي كثير من المناطق، فرضت قوات الدعم السريع نفسها كسلطة أمر واقع، تُدير شؤون الحياة اليومية بأنظمة موازية للدولة، تبدو في ظاهرها منظمة لكنها تعتمد في جوهرها على القسر والولاء العسكري، وهكذا يُعاد تشكيل المجتمع تحت ضغط القوة، في ظل غياب القانون، وتآكل الثقة بأي شكل من أشكال الحكم المدني.

 

دور الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد

 

ويضيف المعهد الإيطالي، أن تطورات الصراع السوداني أدت إلى جانب اتساع نطاق التدخلات الإقليمية والدولية، إلى تعقيد مهام المؤسسات الإفريقية المعنية، وفي مقدمتها الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”. فرغم ما راكمته هاتان المؤسستان من أدوار محورية في إدارة الأزمات داخل القارة، تبدوان في الحالة السودانية كأنهما تخرجان تدريجيًا من دائرة التأثير الفعلي، في ظل مشهد جيوسياسي تتجاوز تحدياته قدراتهما التشغيلية ونفوذهما السياسي. فقد وجدت المؤسستان نفسيهما أمام واقع متغيّر تفرضه قوى إقليمية ودولية تنشط على الساحة السودانية وفق أجندات تتقاطع تارة وتتضارب تارة أخرى، ما أضعف قدرة الاتحاد الإفريقي والإيغاد على ضبط مسار الأحداث أو إدارة جهود الوساطة بشكل فاعل.

 

تآكل المركزية الدبلوماسية الإفريقية

 

إن التوسع المستمر لنفوذ القوى الإقليمية والخارجية في المشهد السوداني أسهم في تقليص الهامش المتاح أمام اللاعبين الأفارقة، الذين باتوا يفتقرون إلى القدرة على طرح مبادرات تفاوضية مستقلة أو فرض رؤى ملزمة على أطراف النزاع، وقد كشفت المبادرات الدبلوماسية التي طُرحت حتى الآن عن ضعف التنسيق، وغياب رؤية موحدة، وعجز واضح عن مواكبة التسارع الميداني للأحداث، وبفعل غياب أدوات الضغط الفاعلة، إضافة إلى محدودية الموارد المالية والبشرية، أخفقت كل من الاتحاد الإفريقي والإيغاد في ترجمة نوايا الوساطة إلى نتائج ملموسة. وهو ما أدى إلى تراجع واضح في مركزية الدور الدبلوماسي الإفريقي، وترك فراغًا تملأه قوى أخرى ذات أجندات متباينة، ما يعمّق تعقيدات المشهد السوداني ويضعف فرص الحل السياسي المستدام.

 

بين الحياد والنفوذ: أزمة المبادئ في قلب الصراع السوداني

 

يقف مبدأ “عدم التدخّل”، الذي شكّل أحد الركائز التقليدية للدبلوماسية الإفريقية بعد الاستعمار، أمام اختبار صعب في ظل النزاع السوداني المتصاعد. فمع انخراط قوى إفريقية كبرى بشكل مباشر أو عبر وكلاء في ساحة الحرب، بات من الصعب التمسك بذلك المبدأ دون الوقوع في التناقض.

 

مصر، على سبيل المثال، العضو المؤثر في الاتحاد الإفريقي، تُعلن دعمها الصريح للقوات المسلحة السودانية، فيما تتخذ بعض دول القرن الإفريقي مواقف ملتبسة، تنحاز في الخفاء لأحد طرفي الصراع. هذا التفاوت في المواقف يُضعف من مصداقية المبادرات القارية ويُربك أداء الاتحاد الإفريقي، الذي يجد نفسه عالقًا بين لعب دور الوسيط، والعجز عن الحفاظ على مسافة متوازنة بين الأطراف، وهو شرط جوهري لقيادة أي عملية تفاوضية فعالة.

 

خطر إحلال الدبلوماسية الإفريقية بقوى خارجية

 

في ظل غياب قيادة إقليمية قوية ومتماسكة، يزداد احتمال أن تؤول إدارة الملف السوداني إلى أطراف خارجية، تتحرك انطلاقًا من مصالحها الاستراتيجية الخاصة، لا من منطلق التوازن الإقليمي، ومع تعثّر المبادرات الإفريقية، تظهر بوادر نقل المسار التفاوضي إلى منصّات عالمية أو ترتيبات ثنائية تقودها قوى إقليمية أو دولية، كدول الشرق الأوسط أو الغرب، مثل هذا السيناريو قد يهمّش الدور السياسي للقارة الإفريقية في حل أزماتها، ويفتح المجال أمام تسويات تُفرض من الخارج، من دون أن تحظى بالقبول المحلي أو تمتلك مقوّمات الاستدامة الفعلية على المدى الطويل.

 

إصلاح ضروري وإعادة تموضع استراتيجي

 

وأوضح المعهد في النهاية، ولكي يستعيد الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد دورهما كفاعلين رئيسيين في إدارة الأزمة السودانية، لا بد من مراجعة جذرية للبنية والآليات. ما هو مطلوب ليس فقط أدوات تفاوض، بل قدرة حقيقية على الدمج بين الدبلوماسية الوقائية ووسائل الضغط السياسي، إلى جانب بناء أطر مهنية لفرق التفاوض تتمتع بالكفاءة والشرعية. كما أن الشراكة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يجب أن تُبنى على قواعد التوازن والتكامل، لا على التبعية. من دون هذا الإصلاح، تبقى المؤسسات الإفريقية في موقع المتفرّج، رغم أن الصراع يدور في عمق أراضيها ويهدّد استقرارها المباشر.

 

رابط المصدر: 

 

Il triangolo libico-sudanese: nuova retrovia di guerra e instabilità regionale

Hosam Sabri
مترجم صحفي، خبير في ترجمة وتحليل التقارير الصحفية، والمواد الصحفية ذات الطابع الاستقصائي، ملتزمًا بالدقة والموضوعية.

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية