في قلب القاهرة، إذ تختلط أصالة التاريخ بحداثة الحاضر، يبرز برج فودة، الذي يمثل رمزًا لعمارة السبعينيات، في مشهد يتجاوز كونه مجرد بناء مهجور. إنه الصراع بين إرث الماضي ومتطلبات الحاضر، حيث يتواجه الجيل الحالي مع أسئلة الهوية والتاريخ.
ماذا تعني حماية التراث في عالم يسارع نحو التغيير؟ وما تكلفة الحفاظ على الذاكرة الجماعية في زمن تهيمن فيه المصالح الخاصة؟ في خضم هذه التساؤلات، يظهر نادي الجزيرة كأحد أقدم المؤسسات الاجتماعية في مصر، ويجسد هذا النزاع بين الحفاظ على الموروث ورغبة التحديث.
“نادي الجزيرة أنشئ عام 1882 في عهد الخديوي إسماعيل، ويعد أقدم المؤسسات التي أقيمت في جزيرة الزمالك بالكامل، وتم تسجيله كتراث مؤخرًا في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. فكيف يتم تدمير تراث عمره يزيد عن 140 عامًا من أجل حل أزمة برج تم بناؤه بصورة مخالفة؟ من المسؤول عن الخطأ عند بناء البرج: ملاكه أم مسئولو الحي الذين لم يلتفتوا إلى أزمة الجراج؟
ليس من العدل أن يتحمل أعضاء النادي الأعرق والأقدم في مصر مسؤولية تصحيح خطأهم”، هكذا وصفت رانيا سامي، استشاري الطب النفسي وعضو نادي الجزيرة، رؤية أعضاء النادي لأزمة نادي الجزيرة التي اشتعلت بسبب دعوة اللواء أمير سعد، مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمراني، لعقد اجتماع لمناقشة مقترح إنشاء جراج متعدد الطوابق تحت الأرض لخدمة برج فودة المهجور من السبعينيات، على أن يتم اللقاء في قصر الاتحادية بحضور وزارة الشباب والرياضة ومحافظة القاهرة ونادي الجزيرة الرياضي، ووزارات الإسكان والتنمية المحلية.
تقول رانيا لمنصة “MENA“: “البداية كانت مع خطاب وجه لرئيس النادي لمناقشة خطة إنشاء الجراج تحت ملاعب الجولف الخاصة بالنادي، دون أي أضرار بها على غرار ‘الهايد بارك’ بمدينة لندن، وهو ما تم عرضه على أعضاء النادي الذين رفضوا رفضًا قاطعًا، لاسيما وأن إنشاء هذا الجراج سينتهي إلى تدمير ملاعب الجولف الخاصة بالنادي. وحتى الحديث عن إعادتها مرة أخرى كما كانت، فإن هذا الجراج يحتاج إلى بنية تحتية للتهوية ستكون فوق الأرض، مما يدمر ملاعب الجولف، أحد العلامات المميزة للنادي”.
تضيف رانيا أن الرئاسة المصرية استجابت لمطالب أعضاء النادي بعد حملتهم ضد الجراج، وورد إلى النادي خطاب من مستشار الرئاسة للتخطيط العمراني يعلن إلغاء أي اجتماعات أو لقاءات متعلقة بالمشروع، لأن هذا المشروع كانت شرطه الأساسي موافقة أعضاء النادي، وهو ما اتضح أنها غير متوفرة.
وأوضحت رانيا أن فكرة إنشاء جراج لبرج فودة تحت ملاعب الجولف الخاصة بالنادي ليست جديدة، حيث سبق وتم رفضها في جمعية عمومية للنادي. وبسبب المخاطبات الأخيرة، فقد تم الدعوة إلى جمعية عمومية غير عادية لمناقشة الأمر في نوفمبر الماضي، وذلك بعد اجتماع عقد قبل أسبوع أسفر عن رفض الفكرة أيضًا.
مانهاتن مصر
في عهد الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، بدأت أزمة برج فودة، حيث حصل خالد فودة، مالك البرج، في عام 1972 على رخصة إنشاء فندق من 50 طابقًا. والغريب أن الرخصة لم تتضمن ترخيصًا لجراج رغم ارتفاعه الشاهق، بمطعم دائري على النيل على غرار ناطحات سحاب مدينة مانهاتن الأمريكية في نيويورك، مما جعل المشروع يلاقي ترحيبًا من الرئيس السادات الذي كان يسعى لبناء مباني تضاهي العواصم الغربية. ولكن غاب عن فودة وموظفي الحي حينها أن يتضمن الترخيص جراجًا لخدمة هذا المبنى.
كان من الممكن حل مشكلة الجراج لولا موقع البرج الواقع في شارع حسن صبري، وهو شارع اتجاه واحد، كعدد ضخم من شوارع الزمالك الضيقة بطبيعتها. حيث تعاني الزمالك من اختناقات مرورية كبيرة بسبب غياب ساحات انتظار السيارات وضيق الشوارع في أكثر جزيرة نيلية مأهولة في مصر.
استمرت مشكلة البرج في التضخم، خاصة مع تحرير عدة مخالفات لمالك البرج بسبب مخالفته الرسم التخطيطي الذي استصدر على أساسه رخصة بناء البرج الذي ترك مهجورًا لفترة تزيد عن نصف قرن دون حل، حتى أصبح سكان الزمالك يتخوفون من انهيار البرج، مما قد يتسبب في كارثة إنسانية.
أزمة جانبية
وتسببت أزمة بناء البرج في أزمة جانبية أخرى بين نادي الجزيرة ونادي الصيد، بعد تسريب صوتي لرئيس مجلس إدارة نادي الجزيرة، شريف سيف النصر، الذي أعلن فيه أنه لن يسمح ببناء الجراج طوال فترة رئاسته لمجلس إدارة النادي التي تنتهي بعد عام من الآن. ولكن في أثناء حديثه، وجه انتقادًا لنادي الصيد، قائلًا: “مش هنعمل زي نادي الصيد اللي قلبه كله مطاعم”.
التسريب الصوتي أثار انتقادات نادي الصيد، الذي أصدر بيانًا رسميًا للرد على حديث رئيس نادي الجزيرة، وجاء فيه: “في سابقة غير مبررة وغير مقبولة تناول السيد رئيس مجلس إدارة نادي الجزيرة الرياضي في رسالة صوتية تم تداولها على نطاق واسع اسم نادي الصيد في سياق مسيء لاسم وأعضاء نادي الصيد العريق، دون الأخذ في الاعتبار أن نادي الصيد المصري العريق وأعضاءه المحترمين لا يجب أن يكونوا محل استهانة ولا سخرية خلال حديث رئيس مجلس إدارة ناد إلى أعضاء ناديه. ولا يمكن بأي حال قبول أن يكون التشبيه بنادي الصيد هو وسيلته لمهاجمة شريحة من أعضاء نادي الجزيرة الذين نكن لهم كل الاحترام والتقدير”.
استجابة الرئاسة
لاقى كتاب مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمراني قبولًا واسعًا لدى أعضاء النادي، من بينهم رئيسة حزب الدستور، جميلة إسماعيل، التي كتبت عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”: “في سابقة نادرة تأتي استجابة رئاسة الجمهورية ومستشارها للتخطيط العمراني بإلغاء كافة الإجراءات التي كان مزمع اتخاذها إزاء مقترح إقامة جراج للبرج المخالف تحت حدائق نادي الجزيرة وملاعبها!”.
ووجهت إسماعيل التحية لأعضاء النادي ومجلس إدارته وكل من ساهم في هذه الحملة القصيرة لمواجهة تبوير المساحات الخضراء وإحلالها بالكتل الإسمنتية ومواقف السيارات، وكذلك لمن اتخذ القرار الحكيم بإعادة النظر عن المسار احترامًا لرفض المجتمع وسكان الحي ونادي الجزيرة وأعضائه، حفاظًا على المساحات الخضراء المتبقية في القاهرة.
ويتفق خالد حبيب، عضو النادي، مع جميلة إسماعيل في توجيه التحية لرئاسة الجمهورية على موقفها الذي استجابت فيه إلى مطالب أعضاء النادي أصحاب المشكلة الأصلية.
وقال حبيب إن إدارة الأزمة كان فيها بعض المشاكل من قبل مجلس إدارة النادي، أهمها الدعوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي للقاء لمناقشة الأزمة. والسؤال المهم أن خطاب مستشار رئاسة الجمهورية قال بصورة واضحة إن أحد القرارات المترتبة عن العدول عن اقتراح إنشاء الجراج هو إلغاء الاتفاق المكتوب الذي يتضمن تحديد المقابل المادي الذي يحصل عليه النادي في حالة الموافقة على إنشاء الجراج، وهي الجملة التي تثير القلق لدى أعضاء النادي، لأن لا أحد يعلم أي معلومات عن هذا الاتفاق.
تاريخ عريق
نادي الجزيرة هو أول نادي تأسس في مصر، حيث تأسس عام 1882 في عهد الخديوي توفيق كمجاملة للجيش الإنجليزي الذي كان أفراده مولعين بلعبة الجولف. فتم منح الجيش الإنجليزي جزءًا من حدائق قصره على مساحة 162 فدانًا. وتأسس النادي تحت اسم نادي الخديوي، ولم يكن مسموحًا للمصريين أو غير الإنجليز بدخوله. كما بدأ الإنجليز تقليد مقبرة الحيوانات القائمة حتى الآن داخل النادي، ولكن لم يكن مسموحًا بدفن حيوانات غير إنجليزية. ومع ضغط الجاليات الأجنبية، تم السماح للأجانب بدخول النادي دون أن يسمح للمصريين بالانضمام للنادي.
وفي عام 1914، مع إعلان الحماية الإنجليزية على مصر، تم تغيير اسم النادي إلى نادي الجزيرة الرياضي. وتم تغيير الاسم بعد ولادة الأمير أحمد فؤاد، نجل الملك فاروق، ليصبح اسمه نادي أمير الصعيد، وهو لقب ولي العهد في مصر، على غرار لقب ولي عهد إنجلترا أمير ويلز. إلا أن ثورة 1952 جاءت ليعود الاسم مرة أخرى إلى نادي الجزيرة، ليتحول النادي عام 1956 إلى نادي مصري يحق للمصريين المطالبة بعضويته. وأصبح ملاذ الطبقة الأرستقراطية، ومن أبرز أعضائه وزير الخارجية السابق عمرو موسى، والكاتب محمد حسنين هيكل، وكذلك الفنانة فاتن حمامة وغيرهم.
وفي عهد عبد الناصر، تم اقتطاع ثلثي مساحة النادي لصالح المجلس الأعلى لرعاية الشباب، لتنخفض مساحة النادي من 164 فدانًا إلى 52 فدانًا فقط. ويعرف عن النادي التدقيق في قبول الأعضاء الجدد ليحافظ على سمعته كنادي الباشوات والأرستقراطية في مصر. حتى أن النادي رفض قبول عضوية الفنان عمرو دياب لعدم مطابقته لشروط العضوية في النادي.
إن هذه الأزمة تعكس صراعًا عميقًا بين الحفاظ على الهوية التراثية من جهة، ومتطلبات النمو والتطور من جهة أخرى. فهل ستبقى جدران نادي الجزيرة، التي شهدت لحظات تاريخية وحكايات عريقة، صامدة أمام ضغط التحولات المعاصرة؟ أم ستجرفها تيارات التنمية العمرانية نحو مصير مغاير، يهدد باندثار معالم الثقافة المصرية التي تتنفس من بين جنبات هذا النادي؟ إن هذه الأسئلة تمثل تحديًا حقيقيًا للمجتمع المصري، الذي يسعى إلى التوازن بين التمسك بجذوره، والانطلاق نحو مستقبل قد لا يحمل ذات الملامح التي لطالما عرفها.
اقرأ أيضًا:
مشروع مبنى القبة التاريخي لقناة السويس.. ما وراء التطوير؟
حديقة الزهرية في مرمى التحديث العشوائي.. إرث تاريخي يواجه خطر الزوال
مشروع حديقة تلال الفسطاط.. هل ينجح في تعويض المواطن والمناخ؟!
رأس البر..ساحل شمالي آخر أم صفقة جديدة؟
انسحاب مستثمرين من مشروع تطوير أرض مصرية.. من الخاسر؟