تتزايد التوترات في العلاقات المصرية-الإسرائيلية مؤخرًا، على خلفية الوضع المتأزم في قطاع غزة، وتعزيز القوات المصرية في المناطق الحدودية بشمال سيناء. التحركات العسكرية المصرية، التي جرت في إطار تعزيزات أمنية لدرء التهديدات الإرهابية، دفعت إسرائيل إلى التعبير عن قلقها المتزايد من احتمال تغيير قواعد التنسيق الأمني بين البلدين. هذه التوترات قد تفتح الباب لاحتمالات تصعيد سياسي أو حتى عسكري.
تشهد منطقة شمال سيناء، على الحدود الشرقية المصرية، تحولات أمنية وعسكرية لافتة خلال السنوات الأخيرة، إذ عززت مصر من وجودها العسكري في المنطقة بشكل ملحوظ، لا سيما في ضوء التوترات المتلاحقة التي تشهدها المنطقة على خلفية الحرب الممتدة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وهو ما أثار قلقًا متزايدًا لدى إسرائيل.
بحسب مصادر أمنية إسرائيلية، رصدت تل أبيب مؤخرًا تعزيزات عسكرية مصرية في سيناء، تتضمن نشر قوات تفوق الحصة المتفق عليها، وتوسيع مرافق الموانئ، ومدّ مدارج المطارات، وهو ما تعتبره إسرائيل مخالفة مباشرة لبنود معاهدة السلام. وتُجري إسرائيل في الوقت الراهن نقاشات مع كل من القاهرة وواشنطن، مطالبةً بتفكيك البنية التحتية العسكرية الجديدة في سيناء، ومؤكدةً أن واشنطن تتحمل مسؤولية ضمان تنفيذ الاتفاقية نصًا وروحًا.
وفي نهاية مارس الماضي، أعلن مصدر أمني إسرائيلي أن تل أبيب لن تتسامح مع أي انتهاكات مصرية للاتفاق، وأنها لا تخطط لتعديل انتشارها العسكري على الحدود، لكنها ترفض استمرار هذا الوضع. وتزايدت هذه التصريحات بعد ما أعلنه سفير إسرائيل في الولايات المتحدة، الذي وصف التحركات المصرية بـ”غير المقبولة”، مؤكدًا أن بلاده ستُثير هذا الملف بشكل جاد في أقرب وقت.
بحسب مصادر مصرية رفيعة، في تصريحات خاصة لمنصة “MENA“، تراقب القاهرة عن كثب كافة التطورات على الحدود المصرية، بينما يسود الاستياء الجانب المصري جراء التصرفات الإسرائيلية، التي تصفها المصادر بأنها “عدائية وغير مسؤولة”.
تؤكد مصادرنا أن القاهرة قررت تجميد فكرة تكليف سفير جديد لها في تل أبيب بعد انتهاء ولاية السفير خالد عزمي، كما ترفض مصر اعتماد سفير إسرائيل الجديد لدى القاهرة بسبب التصعيد العسكري في غزة والدول العربية، ورفض مصر للسلوك الإسرائيلي الذي ينتهك اتفاقية السلام.
وتلفت المصادر إلى أن مصر تتابع كافة التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية داخل إسرائيل، وهناك حالة استنفار كامل في كافة الأجهزة المصرية منذ عام ونصف، فيما تتولى لجنة مصرية متخصصة رصد كافة خروقات إسرائيل لاتفاقية السلام مع مصر، في إجراء قد تتبعه خطوات أخرى، لم تفسرها المصادر.
من جهته، يقول اللواء الدكتور سمير فرج، المفكر الاستراتيجي ومدير إدارة الشؤون المعنوية المصري الأسبق، إن المنطقة تشهد حالة من التوتر غير المسبوق منذ السابع من أكتوبر، إثر العمليات العسكرية المتصاعدة في قطاع غزة. وفي هذا السياق، تؤكد مصر أنها تتابع عن كثب تطورات المشهد، وتتحرك على كافة المستويات السياسية والدبلوماسية والأمنية للحيلولة دون اتساع رقعة النزاع أو انزلاقه إلى مواجهات أوسع قد تهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها.
ويضيف فرج، في تصريح خاص لمنصة “MENA“، أن الوضع الإنساني في غزة أصبح كارثيًا، ولا يمكن السكوت عليه، حيث يعاني أكثر من مليوني مواطن من انعدام الماء والغذاء والدواء، وسط حصار خانق وأعمال عسكرية مستمرة. ولهذا، تضغط مصر بكل الوسائل لوقف إطلاق النار بشكل فوري، وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة، وقد كان هذا محور التحرك المصري في القمة الثلاثية وغيرها من اللقاءات الدولية.
أما فيما يتعلق بالتصريحات الإسرائيلية بشأن تعزيز القوات المصرية في سيناء، فيؤكد أن مصر تتحرك داخل أراضيها وفقًا لما تقتضيه مصالحها الوطنية، وضمن الإطار الذي حدده اتفاق السلام، وبما يضمن حماية أمنها القومي وسيادتها الكاملة على أراضيها.
ورغم أن التصعيد العسكري في غزة يمثل التهديد الرئيسي في الوقت الراهن، فإن سيناريو توسع المواجهة إلى ما وراء القطاع لا يمكن استبعاده بشكل كامل، ما لم يتم التوصل إلى تسوية عاجلة. ومصر، من موقعها الجغرافي ودورها التاريخي، لن تسمح بزعزعة استقرار حدودها أو بفرض واقع جديد يخالف التوازنات الإقليمية.
في هذا السياق، يؤكد فرج أن أمن مصر القومي فوق كل اعتبار، وتعمل بكل حنكة ومسؤولية لمنع الانفجار الكامل في المنطقة.
تبنت القاهرة استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء، منذ أن تولى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحكم في عام 2014، وهو ما تزامن مع مشاريع تنموية ضخمة وتحسينات للبنية التحتية. ومع تزايد التحركات العسكرية في المنطقة، أصبحت إسرائيل تراقب عن كثب هذه التطورات، خاصةً مع ما يعتبره البعض “تجاوزات تدريجية” للقيود العسكرية التي تفرضها معاهدة السلام الموقعة عام 1979 بين البلدين.
وفي الوقت الذي تصف فيه مصر هذه التحركات بأنها جزء من استراتيجية لمكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار، ترى إسرائيل أن هذه التعزيزات قد تشكل تهديدًا في حال استمرت في التوسع أو تحولت إلى واقع عسكري دائم.
وعمومًا، تشهد منطقة سيناء تحولات استراتيجية لافتة في السنوات الأخيرة، مع توسع مصر في بناء بنية تحتية متطورة تشمل مشاريع تنموية ضخمة وتعزيزًا واضحًا لقدراتها العسكرية. هذه التحركات، التي تصفها القاهرة بأنها جزء من خطة شاملة لفرض الاستقرار والتنمية، تثير في المقابل قلقًا متزايدًا لدى بعض الدوائر الأمنية والسياسية في إسرائيل، التي باتت تُعيد تقييم المدى الحقيقي لالتزام القاهرة بالقيود العسكرية التي نصّت عليها معاهدة السلام الموقعة عام 1979.
في ضوء ذلك، أنفقت الحكومة المصرية أكثر من 600 مليار جنيه (نحو 11 مليار دولار) على مشاريع البنية التحتية، شملت إنشاء مدن جديدة، وأنفاق تربط سيناء بالدلتا، وتحديث شبكة الطرق، وتوسيع الموانئ والمطارات. وتؤكد القاهرة أن هذه المشاريع تأتي في سياق مكافحة الإرهاب، ومحاصرة التنظيمات المتطرفة التي نشطت في شمال سيناء بعد عام 2011، في ظل ظروف إقليمية غير مستقرة.
ومنذ عام 2013، شهدت سيناء حالة من عدم الاستقرار الأمني، مع تصاعد عمليات الجماعات المسلحة، وهو ما دفع مصر إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة. وفي ظل حرب غزة المستمرة منذ عدة سنوات، أصبحت تهديدات الأمن على الحدود المصرية أكثر وضوحًا. وتُعزي مصادر مصرية تحركات الجيش المصري في منطقة شمال سيناء، والتعزيزات العسكرية التي تمت على الحدود مع غزة، إلى خطة أمنية تهدف إلى منع تسلل المسلحين وتهريب الأسلحة عبر الأنفاق.
ووفقًا لتقرير من معهد “واشنطن” للشرق الأدنى، فإن تعزيز القوات المصرية في سيناء جاء كإجراء ضروري لمواجهة تحديات أمنية متزايدة، إذ تعتبر مصر أن الوضع في غزة يشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها.
على الجانب الآخر، تنظر إسرائيل بقلق إلى ما تعتبره “تجاوزات تدريجية” من جانب مصر للملحق العسكري في معاهدة السلام، والذي يقيّد وجود القوات المسلحة المصرية في مناطق معينة من سيناء. تقارير إسرائيلية أشارت إلى أن القاهرة نشرت وحدات قتالية ومنشآت عسكرية في مناطق يُفترض أن تكون منزوعة السلاح أو ذات وجود عسكري محدود.
تعتبر إسرائيل أن أي تغييرات في الترتيبات الأمنية في سيناء قد تؤثر على أمنها بشكل مباشر، كما أنها قلقة من أن تعزيز القوات المصرية في المنطقة قد يتجاوز الخطوط الحمراء التي تم تحديدها في اتفاقيات كامب ديفيد، ويجعل من سيناء منطقة تهديد بدلاً من كونها منطقة عازلة.
وفي فبراير الماضي، وصف السفير الإسرائيلي لدى واشنطن تلك التعزيزات بأنها “غير مقبولة”، بينما تحدث رئيس الأركان الإسرائيلي السابق عن امتلاك مصر “جيشًا قويًا يمكن أن يُشكل تهديدًا في لحظة ما”.
لكن هذا الطرح يواجه انتقادات حتى داخل إسرائيل، حيث ترى بعض الأصوات أن الخوف من تحركات الجيش المصري غير مبرر، وأن التعاون الأمني بين البلدين في سيناء ساهم في محاصرة الجماعات المتطرفة، ووفّر لإسرائيل بيئة أكثر استقرارًا على حدودها الجنوبية.
أبلغت مصادر أمنية إسرائيلية عن زيادة ملحوظة في التحركات العسكرية المصرية في شمال سيناء، بما في ذلك تحريك دبابات ومدرعات على الحدود مع غزة. هذه التحركات، التي تفوق بكثير المعايير التي تسمح بها معاهدة السلام، قد تؤدي إلى تنامي القلق الإسرائيلي بشكل أكبر.
في المقابل، قامت إسرائيل بتعزيز أنظمتها الدفاعية على الحدود مع مصر، وأقامت شبكة من الرادارات والكاميرات المتطورة لمراقبة التحركات العسكرية المصرية. كما أطلقت تل أبيب تصريحات تحذر من أي تجاوزات على الحدود.
وفي مارس 2024، وقع حادث تصادم بين القوات المصرية والإسرائيلية على الحدود مع غزة، إثر اشتباه في محاولة تسلل عناصر مسلحة عبر الحدود. أدى الحادث إلى مقتل جندي مصري وإصابة آخر، مما أضاف توترًا جديدًا إلى العلاقات بين البلدين.
الحقيقة أن الملحق العسكري لمعاهدة كامب ديفيد خضع خلال العقدين الماضيين لسلسلة من التعديلات التوافقية، بموافقة إسرائيلية ومباركة أمريكية، سمحت بزيادة عدد القوات المصرية في سيناء، خصوصًا بعد تصاعد التهديدات الإرهابية منذ 2012. وقد رحبت إسرائيل حينها بالتعاون الاستخباراتي والعملياتي مع الجيش المصري. غير أن القلق الإسرائيلي الحالي ينبع من أن بعض هذه “الاستثناءات” قد تتحول إلى أمر واقع يصعب التراجع عنه لاحقًا.
لكن من وجهة النظر المصرية، فإن السيادة الوطنية لا تتجزأ، ولا يمكن رهن مستقبل سيناء باتفاق عمره أكثر من أربعة عقود، جرت عليه تحولات كثيرة في البيئة الأمنية الإقليمية. وترى القاهرة أن مكافحة الإرهاب تتطلب وجودًا عسكريًا دائمًا ومنتشرًا، وليس مجرد تدخلات مؤقتة.
في هذا السياق، يؤكد الكاتب والباحث المصري المتخصص في الشأن الفلسطيني، أحمد جمعة، في تصريح خاص لمنصة “MENA”، أن بلاده اتخذت خطوات واسعة وتحركات متعددة المستويات لحماية أمنها القومي، في ظل التهديدات المتزايدة التي تشهدها المنطقة، لا سيما مع التصعيد الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، واستمرار الاعتداءات على سوريا ولبنان.
ويوضح جمعة أن إسرائيل أثبتت خلال العامين الماضيين عدم احترامها للمعاهدات والمواثيق الدولية، متذرعة بما تسميه “التهديدات الأمنية”، مشيرًا إلى أن تل أبيب خرقت الملحق الأمني لاتفاقية السلام مع مصر من خلال سيطرتها على محور صلاح الدين (فيلادلفي) داخل قطاع غزة، إلى جانب محاولاتها المستمرة لتهجير الفلسطينيين قسرًا، سواء عبر الضغط لنقلهم إلى سيناء، أو عبر التهجير التدريجي لسكان الضفة الغربية نحو الأردن.
ويلفت إلى أن إسرائيل لم تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس في قطاع غزة، وانسحبت فعليًا من أي التزامات تتعلق بالمرحلة الثانية من الاتفاق، متمسكة في الوقت ذاته بمواصلة عدوانها العسكري على القطاع، بما يعكس تنصلًا واضحًا من أي جهود سياسية لحلحلة الأزمة. مشيرًا إلى أن التحركات المصرية الأخيرة جاءت في توقيت بالغ الحساسية، وتعكس وعيًا استراتيجيًا بضرورة الاستعداد لكافة السيناريوهات، في ظل ما وصفه بسلوك الاحتلال “العدواني وغير المنضبط”، والذي لا يُقيم وزنًا للقانون الدولي أو القانون الإنساني.
بالإضافة إلى ذلك، تمثل الغارات والعمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار الشرق الأوسط، وتشكل خطرًا واضحًا على الأمن القومي العربي، مما يستدعي تحركًا عربيًا منسقًا، وربما إعادة طرح فكرة إنشاء قوة عربية مشتركة في هذه المرحلة المفصلية، التي تسعى فيها إسرائيل لإعادة تشكيل خريطة المنطقة.
ويؤكد الباحث المصري أن بلاده تعاملت بواقعية مع احتمالات تطور السلوك الإسرائيلي إلى عدوان مباشر يشمل دولًا عدة في الإقليم، ولذا عملت على تنويع مصادر تسليح جيشها من عدة دول، كخطوة استراتيجية لتقويض المعادلة التي فرضتها الولايات المتحدة، والتي تضمن لإسرائيل تفوقًا عسكريًا نوعيًا، خصوصًا في مجال سلاح الجو، من خلال تزويدها بمنظومات قتالية متطورة لا تُمنح لأي دولة أخرى في المنطقة.
في ضوء هذه المعطيات، يُطرح تساؤل حيوي: هل مصر بصدد “إعادة تفسير” معاهدة السلام بشكل غير معلن؟
الإجابة ليست سهلة. فبينما تؤكد مصر التزامها الكامل بالمعاهدة، ترى أن العالم قد تغيّر، وأن التحديات التي تواجهها على حدودها الشرقية، من الإرهاب العابر للحدود إلى التهديدات المرتبطة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تفرض إعادة موضعة للقوات وتحديثًا للجاهزية العسكرية.
كما أن إسرائيل، رغم التحفظات التي تبديها مؤخرًا، لم تتخذ أي إجراء رسمي للاعتراض أو التلويح بالتحكيم الدولي. ويعني ذلك أن الطرفين لا يزالان يفضلان الاحتفاظ بهامش من المرونة، مدفوعين برغبة مشتركة في الحفاظ على الاستقرار وتجنب الانزلاق نحو تصعيد دبلوماسي أو أمني.
وترى المحامية والمحللة في الأمن القومي الأمريكي، إيرينا تسوكرمان، أن المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط بعد هجمات 7 أكتوبر أفرز توترات كامنة بين مصر وإسرائيل، وحوّل العلاقة التي كانت تقوم على سلام بارد لكنه مستقر إلى حالة دبلوماسية محفوفة بالتعقيد. وأوضحت أن التعاون الهادئ بين القاهرة وتل أبيب، الذي كان يستند إلى اعتبارات أمنية متبادلة، أصبح اليوم هشًا إلى حد غير مسبوق بسبب تداعيات الأزمة في غزة، التي دفعت التحالفات الإقليمية إلى الظهور علنًا.
وتضيف تسوكرمان، في حديث خاص لمنصة “MENA“، أن جوهر الخلاف يتمثل في الرفض المصري القاطع لأي مقترحات تتعلق بنقل سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء. مشيرة إلى أن “ما تم الترويج له من قبل بعض المسؤولين الإسرائيليين باعتباره إجراءً إنسانيًا مؤقتًا، استُقبل في القاهرة على أنه استفزاز مباشر، وليس مجرد اقتراح”. وشددت على أن إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي عبّرت عن موقفها بوضوح قاطع: “مصر لن تتحمل عبء أزمة لم تكن طرفًا في صناعتها”.
وتتابع: “عندما تطلب من دولة ذات سيادة استقبال سكان نازحين، لا تتفاجأ إن ردت ببناء سياج بدلاً من مدّ بساط الترحيب”. وترى أن الموقف المصري ليس فقط سياسيًا، بل وجودي أيضًا، فسيناء تمثل نقطة ضغط رئيسية في معادلة الأمن القومي المصري، بعد سنوات من مواجهة الجماعات المتطرفة وشبكات الإرهاب فيها. مؤكدة أن أي تدفق واسع للفلسطينيين إلى سيناء – حتى لو تحت لافتة الإنسانية – سيكون بمثابة صب الزيت على نار خامدة، من شأنها إشعال توترات قبلية وفتح المجال مجددًا أمام عودة النشاطات المتطرفة. وأضافت: “لا يمكنك صب البنزين على الأعشاب الجافة ثم تسمي ذلك ريًا”.
وكحل بديل للتهجير، طرحت مصر مقترحًا بتشكيل قوة استقرار عربية تقودها دول مثل الإمارات والأردن، وربما بعض الشركاء من إفريقيا، لتتولى إدارة غزة بشكل مؤقت دون أن تتحمل مصر عبء اللاجئين أو المسؤولية الكاملة. وترى تسوكرمان أن هذا المقترح يعكس إدراكًا مصريًا للفجوة الأمنية التي خلفها تراجع نفوذ حماس في القطاع.
وتقول: “الوصاية الإقليمية المدعومة برقابة أمريكية قد تكون المسار الأكثر قابلية للتطبيق في الوقت الراهن. كما تتيح لمصر لعب دور قيادي دون أن تتورط ميدانيًا”. وتختم بقولها: “الأمر لا يتعلق بمن يحصل على مفاتيح غزة، بل بمن لديه الاستعداد الحقيقي لتنظيف الأرضية وتغيير الأقفال”.
تلعب الولايات المتحدة دورًا مهمًا – ولو من وراء الكواليس – في ضبط الإيقاع بين القاهرة وتل أبيب. فالقوة متعددة الجنسيات في سيناء، التي تُشرف على تنفيذ بنود الاتفاق، تعمل تحت مظلة دولية تضمن مراقبة التحركات من الجانبين. كما أن واشنطن، التي تُعد داعمًا رئيسيًا للمعونة العسكرية لمصر، تدرك أن تعزيز قدرة الجيش المصري يُسهم في استقرار حليف مهم في الشرق الأوسط، خصوصًا في ظل التوتر الإقليمي المتصاعد والحرب المستمرة في غزة.
وعن التحول في السياسة الأمريكية، تقول تسوكرمان إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أعادت ترتيب الأولويات في الشرق الأوسط، حيث اختفت لغة الشعارات الأخلاقية لتحل محلها مقاربة استراتيجية واضحة. وتشير إلى أن تصريحات ترامب الدافئة تجاه الرئيس السيسي وجهود مصر في غزة تعكس فهمًا عميقًا للخطوط الحمراء المصرية، وليست مجرد مجاملة دبلوماسية.
وتتابع: “الولايات المتحدة في عهد ترامب لم تعد تهمس بكلمات لطيفة، بل تضع الخريطة على الطاولة وتسأل: ما هو هدفكم النهائي؟”.
ووفق تسوكرمان، فإن الدبلوماسيين الأمريكيين مارسوا ضغوطًا على إسرائيل للتراجع عن خطاب التهجير، والاتجاه نحو حلول أكثر واقعية، تشمل عمليات عسكرية دقيقة، وممرات إنسانية، وإشراك أطراف عربية في جهود الاستقرار.
إلى جانب المشهد الظاهري الذي يركّز على الأمن الإسرائيلي والسيادة المصرية، تشير تسوكرمان إلى دور خفي وأكثر تعقيدًا تقوم به قطر في التأثير على التوازنات الإقليمية. فبينما تقدم نفسها كراعٍ إنساني في غزة، تلعب الدوحة دورًا مزدوجًا – وفق قولها – فهي تموّل إعادة الإعمار من جهة، وتسمح في الوقت ذاته لوسائل إعلامها الممولة من الدولة بشيطنة مصر، سواء عبر اتهامها بالتواطؤ أو بالتقصير الأخلاقي.
وتضيف: “قطر لا تسعى إلى حل الأزمة، بل إلى ترسيخ نفوذها الإقليمي. إضعاف الدور المصري في غزة يُعد فرصة ذهبية لها للظهور كراعية أولى للقضية الفلسطينية”.
وأردفت: “حينما تأتي المساعدات مصحوبة بكاميرا سينمائية ونص مكتوب مسبقًا، فأنت لست مانحًا بل مخرجًا”.
تؤكد تسوكرمان أن التوتر بين مصر وإسرائيل ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو اختبار للسيادة والنفوذ، ومن يمتلك حق صياغة رواية الشرق الأوسط الجديد. وفي ظل سعي قطر لتأجيج النزاعات، وتردد إسرائيل بين مقاربات خطيرة، ترى أن الدبلوماسية الأمريكية الحاسمة أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى.
وتؤكد: “مصر رسمت خطوطها الحمراء بوضوح، والرسالة هذه المرة لا تحتمل التأويل: لا للتهجير، لا لزعزعة الاستقرار، ولا للتلاعب الدبلوماسي المقنع”.
وتحذر من أن “الخطر الحقيقي لا يكمن في الصراع المفتوح، بل في الشريك الذي يسميه سلامًا بينما يمد خصومك بعلبة ثقاب”.
إذا استمر التوسع العسكري المصري في سيناء بوتيرته الحالية، دون تنسيق واضح مع إسرائيل، فإن الثقة التي بُنيت على مدار أربعة عقود قد تتعرض لتآكل تدريجي، وفق مراقبين. لكن في الوقت ذاته، فإن التعاون الأمني، الذي بلغ ذروته خلال السنوات الأخيرة في مكافحة الإرهاب، يُعد دليلاً على أن التفاهم الاستراتيجي بين الطرفين لا يزال قائمًا.
ورغم اختلاف الرؤى، لا تظهر حتى الآن مؤشرات على وجود نية لدى أي من الجانبين لخرق المعاهدة أو المساس بجوهرها.
وما يجري في سيناء لا يمكن فصله عن معادلات أوسع ترتبط بإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. فمصر ترى في سيناء محورًا للتنمية والأمن والسيادة، بينما ترى إسرائيل أن التحولات المتسارعة هناك قد تُخلّ بالتفاهمات التاريخية.
بين هذا وذاك، يبقى الرهان على استمرار التنسيق والاحتكام إلى قنوات دبلوماسية تضمن الأمن والاستقرار للطرفين، بدلًا من الانجرار وراء مخاوف غير مؤكدة أو حسابات مفرطة في الشك.
إلى جانب ذلك، فإن ما يجري في سيناء اليوم يتجاوز النقاش حول بند هنا أو ملحق هناك من معاهدة السلام. إنه مشهد جديد يعكس تداخل المصالح، وتغير موازين القوى، وتبدّل الأولويات الجيوسياسية. وبينما تواصل مصر تعزيز قدراتها العسكرية ومشاريعها التنموية في سيناء، ترى إسرائيل في ذلك إعادة رسم للحدود غير المعلنة للمعاهدة.
وبين “حق مصر في التنمية” و”حق إسرائيل في الأمن”، يبقى الملف مفتوحًا على احتمالات متعددة، تتراوح بين التنسيق الحذر والانفجار الصامت.
تُدرك القاهرة أن أمنها القومي يبدأ من سيناء، وأن التنمية والبنية التحتية لا تنفصل عن الاعتبارات العسكرية في منطقة كانت لسنوات طويلة مرادفًا للهشاشة الأمنية. وإذا كانت معاهدة السلام قد أرست توازنًا إقليميًا ضروريًا، فإن طبيعة التهديدات الجديدة التي تواجهها مصر – من الإرهاب العابر للحدود إلى سيناريوهات التفكك في الإقليم – تفرض مقاربة مختلفة لمعنى “السيادة” على الأرض.
في المقابل، تبدو بعض المخاوف الإسرائيلية مدفوعة ليس فقط باعتبارات أمنية بحتة، بل أيضًا بتغير موازين القوى في الشرق الأوسط، حيث تعود مصر لتتموضع كفاعل مركزي قادر على تحقيق الاستقرار في محيطه، دون التنازل عن حقوقه المشروعة في حماية أراضيه.
ولعل التحدي الحقيقي في المرحلة المقبلة ليس في إعادة النظر في معاهدة السلام، بل في تحديث آليات تنفيذها بما يراعي متغيرات الواقع، دون المساس بجوهر الاتفاق التاريخي الذي حفظ السلام لأربعة عقود.
وبقدر ما يظل الحوار المفتوح هو صمام الأمان، فإن الغموض الاستراتيجي – إذا طال أمده – قد يفتح الباب أمام تفسيرات متباينة، لا تُخدم سوى أعداء الطرفين.
السيناريو الأول: التهدئة بالتنسيق الأمني
يعتمد هذا السيناريو على عودة مصر وإسرائيل إلى طاولة التفاوض وتفعيل آليات التنسيق الأمني بينهما. ويتطلب تقديم ضمانات للطرفين بشأن الالتزام بالترتيبات الأمنية في سيناء، إضافة إلى الاتفاق على تعزيز آليات التبادل الاستخباراتي لتفادي أي احتكاكات ميدانية.
السيناريو الثاني: التصعيد السياسي والإعلامي
يمكن أن يؤدي التصعيد الإعلامي المتبادل إلى تأزيم العلاقات بين البلدين، خاصة في ظل الخطاب العدائي في الإعلام الإسرائيلي والمصري. وقد يتطور هذا التصعيد إلى اتخاذ إجراءات سياسية مثل استدعاء السفراء أو تجميد بعض التفاهمات الأمنية بين الجانبين.
السيناريو الثالث: المواجهة العسكرية المحدودة
في حال استمر التوتر على الحدود، قد يحدث اشتباك محدود بين القوات المصرية والإسرائيلية. هذا السيناريو يعكس الاحتمالات التي قد تنشأ نتيجة سوء الفهم أو احتكاك ميداني غير مقصود، خاصة في ظل التعقيد الميداني والتشابك الجغرافي في المنطقة الحدودية مع غزة.
اقرأ أيضًا:
مصر تعزز أمنها في سيناء وسط مخاوف إسرائيلية متزايدة
إستراتيجية مصرية لأمن مستدام في سيناء
هل بدأ الاستثمار الإماراتي في تعمير شبه جزيرة سيناء؟