من عباءة القوات المسلحة، خرج إلى النور جهاز “مستقبل مصر للتنمية المستدامة”، الذي يعمل كقوة تنفيذية جديدة لإعادة تشكيل خريطة الأمن الغذائي المصري. وقد تأسس الجهاز بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 591 لسنة 2022، بهدف تحقيق الأمن الغذائي، في بلد يحتل المرتبة 66 عالميًا في هذا المؤشر.
ويرى الخبراء الذين تحدثت إليهم منصة MENA، أننا أمام كيان اقتصادي ضخم تجاوز أهدافه المعلنة المتعلقة بالأمن الغذائي، وامتدت أنشطته إلى مجالات متعددة مثل الصحة، واستغلال الأصول، بل وأصبح المستورد الأوحد للقمح المصري. ويتمتع هذا الكيان بدعم مالي غير مسبوق، في ظل غياب الشفافية؛ إذ لا يخضع لميزانية الدولة، ولا توجد آلية واضحة لرقابته أو مساءلته من قبل البرلمان، ما يثير الكثير من علامات الاستفهام.
وقد تسلم الجهاز لاحقًا ملفات ذات طابع سيادي، أبرزها ملف استيراد القمح والسلع الاستراتيجية في عام 2024، وتوسع دوره ليشمل هذا العام استلام القمح المحلي من الفلاحين بدلًا من وزارتي الزراعة والتموين، المعروفتين بملفات فساد مزمنة. ثم انتقلت إليه أيضًا صلاحية منح الموافقات الخاصة باستيراد الماشية من الخارج، في ظل خطة الدولة لتوطين مليون رأس ماشية خلال العام المقبل، بشرط أن تكون مناسبة للبيئة المصرية وتنتج ألبانًا وفيرة ولحومًا أكثر دون الحاجة لزيادة الأعلاف.
في عام 2021، كلف الرئيس عبد الفتاح السيسي الطيار بهاء الغنام بإدارة مساحات تتجاوز المليون فدان في منطقة الدلتا الجديدة بالصحراء الغربية، بهدف تنفيذ مشاريع تنموية كبرى لتعزيز الأمن الغذائي وتحقيق تنمية مستدامة حقيقية في مختلف محافظات مصر.
وبحسب المعلومات المتاحة على الصفحة الرسمية للجهاز، حصل على مساحات شاسعة من الأراضي، وانتقلت إليه ملكية عدد من المشروعات الزراعية والتصنيعية، من بينها شركة قها وأدفينا، إضافة إلى مشاريع في الثروة الحيوانية تشمل تربية وتسمين الماشية، وإنتاج الألبان والدواجن. كما امتدت صلاحياته لتشمل السيطرة على البحيرات الطبيعية، حيث تسلم إدارة بحيرات ناصر، والمنزلة، والبرلس، والبردويل، بالإضافة إلى تولي مهام جهاز حماية وتنمية البحيرات.
وخلال فترة زمنية قصيرة، تحول الجهاز من التركيز على التنمية الزراعية إلى شراكات موسعة تعمل بنظام النمو غير المتوازن، وشملت أنشطته قطاعات مثل التصنيع الزراعي، التعدين، الثروة الداجنة والسمكية، إعادة استغلال الأصول، والتكنولوجيا الرقمية. وتُقدّر قيمة أعمال الجهاز سنويًا بما يقارب 100 مليار جنيه.
بحسب أستاذ الاقتصاد الزراعي، في تصريح لمنصة MENA، فإن وجود كيانات تعمل خارج الجهات البحثية في القطاع الزراعي يعد أمرًا غير علمي. ويضرب مثالًا بتأسيس شركة في امتداد توشكى على مساحة 25 كيلومترًا، خاضعة لكيان سيادي، تتولى زراعة القمح دون أي دراسات علمية، والدليل أن أغلب الإنتاج موجّه للتصدير، ولا يؤثر على السوق المحلي، ما يعني انعدام العائد للمواطنين. ويضيف أن أغلب القمح المنتج في الصعيد يُستخدم في صناعة المكرونة بدلًا من الخبز، نتيجة غياب التوجيه الفني.
ويتابع قائلًا لمنصة MENA: “سيطرة جهات سيادية على البحيرات، مثل بحيرة البردويل، لن تؤتي نتائج طيبة، وكان الأجدى الاستعانة بالمتخصصين والصيادين، وفهم احتياجاتهم، ثم وضع خطة حقيقية نابعة من أصحاب المشكلة الفعليين”. ويشير أيضًا إلى غياب خطة واضحة للزراعة، سواء في ما يخص التركيب المحصولي أو ترتيب الأولويات بين الإنتاج المحلي والتصدير، وهو ما ينعكس سلبًا على المزارع الصغير، الذي لا يجني ثمار جهده، في حين تستحوذ شركات التصدير الكبرى ورجال الأعمال على أغلب الأرباح في ظل غياب الجمعيات التعاونية الزراعية.
ويشدد على ضرورة وضع خطة وطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية، خاصة في ظل الظروف الدولية المعقدة، كالأزمات في السودان وليبيا وغزة، والحروب والصراعات المتصاعدة في الشرق الأوسط.
في عام 2024، صدر قرار بنقل ملف استيراد القمح والسلع الاستراتيجية إلى جهاز “مستقبل مصر”، بدلًا من هيئة السلع التموينية التي أدارت هذا الملف لنحو خمسة عقود. بل وشارك الجهاز أيضًا وزارة التموين في استلام القمح المحلي، كما أُضيفت إليه صلاحية منح موافقات استيراد الماشية، وهي اختصاص أصيل لوزارة الزراعة.
وفي عام 2025، استحوذ الجهاز على الحصة الأكبر في بورصة السلع المصرية، التي تعمل كمنصة لتحديد أسعار السلع وفقًا للعرض والطلب، ما منحه أداة استراتيجية للتحكم جزئيًا في السوق.
ووفقًا لمصادر تحدثت لمنصة MENA، فإن غياب الشفافية يحيط بملف استيراد شحنات القمح، حيث لا تُعرف طبيعة الإجراءات: هل تتم عبر مناقصات مفتوحة أم بالأمر المباشر؟ وهل يتم تقييم العروض المختلفة؟ مع العلم أن روسيا وأوكرانيا كانتا أبرز مورّدي القمح لمصر، وقد تأثر هذا المسار بشدة عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
تشير المعلومات المتاحة، والمصادر التي تواصلت معها منصة MENA، إلى أن مشروعات الجهاز تنتشر من سيناء إلى السادات، واللاهون، والمنيا، والواحات، والفرافرة، وأسوان، ومشروع “سنابل سونو”. إلى جانب ذلك، يُعد قطاع التصنيع الزراعي أحد ركائز العمل، بنسبة إسهام تصل إلى 16%.
منذ التأسيس، يستهدف الجهاز التوسع في الرقعة الزراعية من 4.5 مليون فدان حاليًا إلى 6 ملايين فدان بحلول 2027، ويشمل ذلك استخدام أنظمة ري حديثة وتحسين جودة الأراضي الزراعية. وكانت الانطلاقة الأولى للمشروع في عام 2018 بمساحة لا تتجاوز 30 ألف فدان، لتصل في عام 2025 إلى 1.6 مليون فدان، في طريقها نحو هدف الـ6 ملايين.
حتى عام 2017، لم يكن مشروع “مستقبل مصر” سوى جزء من المشروع القومي “المليون ونصف فدان”، الذي أُطلق في عام 2015، وامتد ليشمل محافظات الجيزة، والبحيرة، والفيوم، ومرسى مطروح، تحت إشراف شركة مساهمة حكومية تُدعى “تنمية الريف المصري الجديد”.
وقد خصصت الشركة مساحات لجهات عسكرية ومدنية، من بينها القوات الجوية، التي أوكلت إلى المقدم طيار بهاء الغنام مهمة إدارة 200 ألف فدان ضمن مشروع “مستقبل مصر” في منطقة الدلتا الجديدة، على بعد 30 كيلومترًا من مدينة السادس من أكتوبر. وإلى جانبها، خُصصت أراضٍ لقوات الدفاع الجوي تحت اسم “جنة مصر”، وأراضٍ أخرى لجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، بالإضافة إلى مساحات مملوكة لوزارة الزراعة.
في غضون أقل من ثلاث سنوات، تمكن مشروع “مستقبل مصر” من استصلاح كامل المساحات المخصصة له، وزراعة محاصيل للسوق المحلي على رأسها: القمح، الشعير، الذرة، والبنجر، إلى جانب محاصيل مخصصة للتصدير مثل البطاطس، والبصل، والخضروات، والموالح.
وقد نجحت الشركة، وفقًا لتصريحاتها، في زراعة 800 ألف فدان خلال العام الماضي، ويجري الآن العمل على استصلاح 800 ألف فدان أخرى خلال هذا العام، وهو ما يجعلها – بعدما تحولت إلى شركة لاحقًا – أكبر مالك للأراضي الزراعية في مصر، بما يعادل نحو نصف مساحة الأراضي الزراعية في البلاد.
خلال المؤتمر الأول لمشروع “مستقبل مصر” في 21 مايو الماضي، أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي عن استيائه من استمرار استيراد مصر لكميات كبيرة من لبن الأطفال، موجّهًا حديثه إلى وزير الصناعة، الفريق كامل الوزير.
وفي اليوم ذاته، أعلن جهاز “مستقبل مصر” أنه بدأ بالفعل محادثات مع القطاع الخاص لإنشاء مصنع لإنتاج لبن الأطفال. وصرّح المتحدث باسم الجهاز، خالد صلاح، عبر مداخلة تلفزيونية، أن تكلفة المشروع تصل إلى 500 مليون دولار، ويتطلب استيراد 40 ألف بقرة وزراعة 50 ألف فدان برسيم.
لم يقتصر طموح جهاز “مستقبل مصر” على الزراعة فقط، بل امتد إلى تأسيس منطقة صناعية تحويلية وأخرى لوجستية، إلى جانب البدء في إنشاء أكبر سوق للجملة في مصر، بهدف التحكم في أسعار الخضروات والفاكهة بعيدًا عن ما وصفه بـ”جشع التجار”. كما أعلن الجهاز عن فتح منافذ للبيع تابعة له في جميع أنحاء الجمهورية، وهي منافذ كانت تُدار سابقًا بواسطة القوات المسلحة.
أما الأصول غير المستغلة في الدولة، وخاصة تلك المهملة أو غير المُفعّلة سياحيًا، فقد دخلت أيضًا في نطاق الجهاز. ومن بين هذه الأصول قرية “توت عنخ آمون” بأسوان، التي أُدرجت ضمن خطة تطوير ضمن مشروع مدينة “جريان”، وأُعلن عن تأسيس شركة تطوير عقاري جديدة تابعة للجهاز تحمل اسم “Nation of Sky”، لتدخل كشريك في تطوير المدينة إلى جانب شركتين تطوير عقاري أخريين.
كما شهدت الأيام الأخيرة لقاءً بين جهاز “مستقبل مصر” ووزير الصحة لبحث نقل إدارة عدد من المستشفيات الحكومية للجهاز بهدف تقديم خدمات طبية متطورة للمصريين والأجانب، ما يعكس استثمارات الجهاز في القطاع الصحي أيضًا.
ويُعد “مستقبل مصر” كيانًا ربحيًا، وفي الوقت ذاته ذو طبيعة سيادية خاصة، لا يُعامل كجهة حكومية تورد أرباحها إلى الموازنة العامة للدولة، ولا هو شركة خاصة تخضع للضرائب أو الإفصاح المالي. كما يتمتع الجهاز بإمكانية الحصول على قروض وتسهيلات بنكية كأي مستثمر خاص، ومع ذلك لا يخضع لأي بنية قانونية أو إدارية واضحة، ولا توجد قواعد إلزامية للشفافية أو الإفصاح عن تفاصيل أعماله.
يقول خبير اقتصادي تحدث لمنصة MENA إن الهدف من إنشاء الجهاز نبيل، ويتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، خاصة في ظل الدعم الواسع الذي يتلقاه من إحدى الجهات السيادية. ويضيف أن الجهاز منتشر الآن في كل محافظات الجمهورية، ويستهدف تنفيذ مشروعات بإجمالي 4.5 مليون جنيه (يُفترض أن المقصود: 4.5 مليون فدان أو حجم أعمال لا يقل عن ذلك).
ويضيف الخبير: “المشكلة ليست في الهدف، ولكن في الغموض الذي يحيط بالإجراءات، فهل تتم التعاقدات بنظام المناقصات أم بالأمر المباشر؟ وهل توجد آليات محاسبة برلمانية؟ من يُراجع الميزانية؟ نحن نتحدث عن مشروع تقترب تكلفته من 10 مليارات جنيه، ومع ذلك لا تتوفر معلومات عن الجدوى الاقتصادية أو خطط العوائد”.
ويتابع: “نحن بحاجة إلى مزيد من الشفافية لا تعني بالضرورة التشكيك في ذمم المسؤولين، ولكن لضمان المحاسبة وكفاءة الإنفاق، خصوصًا في ظل غياب خطط كسر الحلقات الوسيطة، ومعاناة المواطن من ارتفاع أسعار الخضروات والفاكهة نتيجة فتح التصدير بدون تنظيم. وحتى الآن، لم يشعر المواطن بأثر هذه الكيانات، رغم توصيات صندوق النقد الدولي بالتخارج من الأنشطة الاقتصادية الحكومية، ومشاركة القطاع الخاص”.
ويختم قائلًا: “الشفافية والمحاسبة هي أدوات محاربة الفساد. أما الغموض، فقد يسمح لأي جهة باستغلال الفرص وجني الثمار على حساب المواطن”.
اقرأ أيضًا:
هل يخضع صندوق مصر السيادي لـ توجيهات صندوق النقد؟
نقل تبعية “الصندوق السيادي”.. ما القصة؟
تحدي التهجير.. إلغاء زيارة السيسي للبيت الأبيض