الشارع المصري

ما الذي يدفع الشباب “للهجرة بأي ثمن” من مصر؟

يتراجع معدل توفير الوظائف في مصر منذ الربع الأخير من عام 2022، حيث تتركز 87% من الوظائف الجديدة في العاصمة، مما يقلل من فرص الشباب في القرى والمدن الصغيرة. وتشهد القطاعات الحيوية مثل تطوير البرمجيات والمبيعات والتجزئة انخفاضًا في فرص العمل، بينما ترتفع في مجالات الهندسة المدنية والمعمارية، وهو ما يعكس توجه الدولة نحو المشروعات العملاقة والبنية التحتية. لكن هذه المشروعات لم تتحول بعد إلى قطاعات إنتاجية قادرة على استيعاب الأيدي العاملة المصرية.

 

ولا تمثل الوظائف الصناعية سوى 10% من إجمالي وظائف القطاع الإنتاجي المصري، فيما يُشترط لنسبة 38% من تلك الوظائف الحصول على مؤهلات دراسية عليا. هذا الوضع يُهدر الموارد البشرية المؤهلة ويحرم العمالة الماهرة من فرص مناسبة.

 

دراسة تحليلية أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، سلطت الضوء على الفرص المتاحة للمصريين في دول الخليج، خاصة الإمارات والسعودية. كشفت الدراسة أن 40% من الوظائف المعلنة على مواقع التوظيف المصرية تتعلق بتلك الدول، وتتركز بنسبة 75% في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات، إدارة الأعمال، الهندسة المعمارية، المحاسبة المالية، وتطوير الأعمال واللوجيستيات.

 

ولكن أحلام الشباب المصري في الحصول على تلك الوظائف أو الاستمرار بها تتبدد سريعًا بسبب عوامل عدة، أهمها ضعف التدريب والتعليم، وتأخر مصر في الترتيب العالمي لجودة التعليم والتدريب. كما يواجه الكثيرون مشكلات قانونية بسبب جهلهم بقوانين الدول التي يعملون بها، ما يعرضهم للسجن أو فقدان وظائفهم، إلى جانب استراتيجيات “توطين الوظائف” في دول الخليج.

 

هذه التحديات تدفع البعض للتفكير في الهجرة غير المشروعة، رغم المخاطر الكبيرة على حياتهم. ووفقًا لمساعد وزير الخارجية المصري للشؤون القنصلية، تُقدر العمالة المصرية في السعودية وحدها بين 2 إلى 3 ملايين، بينما يتم القبض على نحو 500 إلى 1000 مواطن مصري شهريًا في أثناء محاولات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر ليبيا.

 

وفي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، تسعى الحكومة المصرية إلى رفع معدلات الهجرة الشرعية باعتبارها مصدرًا مهمًا للعملات الأجنبية. وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج أعلنت عن توجه لتدريب العمالة المصرية لتأهيلها لأسواق العمل الخارجية. كما تُدرس فكرة إنشاء مركز مصري للهجرة لتأهيل العمالة وفق متطلبات أسواق عمل دول مثل إيطاليا، هولندا، بلجيكا، إنجلترا، والسعودية.

 

الأطباء يعانون ما بين إهمال الحكومة للمنظومة وسخط العامة

 

هجرة الكوادر الطبية

 

استقطاب الأطباء والممرضين المصريين للعمل في الدول الأوروبية كان له أثر سلبي كبير على القطاع الصحي في مصر. هذا النقص تفاقم مع تشريعات حكومية جديدة تسمح للقطاع الخاص المصري والأجنبي بالاستثمار في القطاع الصحي الرسمي، مع إمكانية الاستغناء عن 75% من العاملين.

 

هذه السياسات أدت إلى عجز واضح في تقديم الخدمات الطبية بكفاءة داخل المؤسسات الصحية الرسمية، مما يثير تساؤلات حول مدى واقعية التوجه الرسمي لزيادة تصدير العمالة للخارج. هل يمكن أن يكون تصدير العمالة مصدرًا مؤقتًا للحصول على العملات الأجنبية؟ أم أنه قد يؤدي إلى انهيار قطاعات حيوية تمس الأمن القومي المصري؟

 

رغبة المصريين في الهجرة

 

الأزمات الاقتصادية التي تمر بها مصر دفعت الكثير من الشباب إلى التفكير في الهجرة، حتى لو كانت تلك الهجرة محفوفة بالمخاطر، مثل ارتفاع الأسعار، ضعف مستوى الخدمات، وتدني الحد الأدنى للأجور كلها عوامل تجعل الهجرة، وإن كانت غير مشروعة، خيارًا مغريًا للبعض رغم المخاطر الكبيرة، ومنها الموت غرقًا.

 

وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، انخفض عدد المصريين العاملين بالخارج إلى 9 ملايين عام 2019، واستمر التراجع في 2020 بسبب جائحة كورونا. لكن مع تخفيف قيود السفر في 2021، عادت الأعداد للارتفاع بشكل ملحوظ، حيث تم تسجيل 883 ألف تصريح عمل بالخارج مقارنة بـ 501 ألف في 2020، بزيادة بلغت 76.4%.

 

الملفت أن نسبة التصاريح الصادرة لأول مرة بلغت 52.9% بإجمالي 467 ألف تصريح، بينما شكلت التصاريح المُجددة 47.1%. واستحوذت الدول العربية على النسبة الأكبر من التصاريح بـ96.9% بإجمالي 856 ألف تصريح عمل. هذا يوضح أن الانخفاض السابق كان نتيجة قيود الجائحة، فيما تؤكد عودة الارتفاع أن الرغبة الحقيقية للمصريين هي العمل بالخارج لمواجهة التحديات المحلية.

 

معاناة العمالة المصرية

 

مشكلات العمالة المصرية ليست فقط في البطالة أو صعوبة إيجاد وظائف بالخارج، بل تمتد إلى مشكلات هيكلية في سوق العمل المحلي.

 

تقرير صادر عن “دار الخدمات العمالية” سلط الضوء على الانتهاكات والصعوبات التي يواجهها العمال في القطاعين الحكومي والخاص. كما اعترضت النقابات العمالية على السياسات الحكومية، بما في ذلك التوجه نحو تصفية أصول الدولة لجمع حوالي 25 مليار جنيه، بدلاً من الاستثمار في المجالات الصناعية والزراعية التي توفر فرص عمل مستدامة.

 

هذه المشكلات تؤدي إلى إحباط العمالة المحلية، وتزيد من رغبة الشباب في تجنب دخول سوق العمل المصري، ما يدفعهم نحو الهجرة كخيار نهائي للهروب من بيئة عمل غير مشجعة وغير مستقرة.

 

تراجع دور الدولة

 

تراجع دور الدولة في تقديم الخدمات الأساسية، مقابل زيادة الغلاء المستمر، ظهر بوضوح من خلال إصدار قانون “تنظيم منح التزام المرافق العامة للقطاع الخاص لإنشاء وتشغيل المنشآت الصحية”. هذا القانون سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإجراءات الطبية في المستشفيات العامة، فضلاً عن تقليص دعم الخبز والكهرباء والمواد البترولية.

 

وتُعاني نصف العمالة المصرية تقريبًا من عدم استقرار ظروف العمل، حيث يتجاوز عدد العمال غير المنتظمين 13 مليون عامل، أغلبهم من النساء والشباب في المرحلة العمرية من 15 إلى 29 عامًا. ولا تتمتع هذه الفئة بأيٍ من أشكال الحماية الاجتماعية، مما يجعلها الأكثر تأثراً بالأزمات الاقتصادية التي تمر بها مصر.

 

يتم توظيف العديد من العاملين في القطاع الخاص بعقود عمل مؤقتة أو بدون عقود من الأساس، وفي حال التوظيف، لا يُطبق الحد الأدنى للأجور كما ينص عليه القانون، حيث يتم احتساب جميع المستحقات مثل البدلات والأرباح والمكافآت ضمن قيمة الحد الأدنى. هذا إضافة إلى أن بعض الشركات تمكنت من تأجيل تطبيق الحد الأدنى للأجور بسبب الإجراءات الحكومية طويلة الأمد.

 

احتجاجات عمالية

 

وما زالت هناك احتجاجات عمالية في مصر، فقد تم تطبيق الحد الأدنى للأجور على موظفي قطاع الأعمال العام بعد إضراب عمال شركة المحلة عن العمل. ولكن، بحسب النقابيين، تعاملت أجهزة الدولة مع العمال بالقمع والتهديد أثناء الإضراب، حيث تم احتجاز بعض العمال لفترات طويلة، وحتى بعد انتهاء الإضراب.

 

وتُعد العمالة غير المنتظمة وغير المسجلة في البيانات الرسمية للعمالة المصرية من أبرز المشاكل، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها ضعف المقابل المادي للتسجيل في المنظومة، مما يقلل من الحافز لدى العمال للانضمام إليها. كما أن هناك نسبة كبيرة من العمال غير المتعلمين، ما يجعلهم يواجهون صعوبة في التعامل مع الإجراءات الحكومية.

 

غياب الحوار بين العمال والحكومة

 

يرى التقرير أنه لا يوجد حوار حقيقي بين العمال والحكومة، وأن هناك ممارسات غير قانونية للحد من دور النقابات العمالية. ورغم القوانين التي تنص على حق الحوار بين العمال والحكومة، مثل قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1027 لسنة 2014 بتأسيس المجلس الأعلى للحوار المجتمعي وتعديلاته في 2018، إلا أن هذه القوانين لا تُفعّل، ولا يزال عدد من النقابيين قيد الاعتقال بتهم مثل إثارة الفوضى أو الانتماء إلى جماعة تم تأسيسها بخلاف القانون.

 

أزمة مركبة

 

بناءً على ما سبق، يبدو أن أزمة العمالة المصرية ليست قضية منفصلة يمكن حلها من خلال قرارات اقتصادية فقط. فالأزمات الاقتصادية تؤثر بشكل مباشر على العامل المصري، بينما تساهم قلة فرص التوظيف في زيادة نسبة العاطلين عن العمل أو الذين يقبلون وظائف غير مستقرة تُنتهك فيها حقوقهم. وعندما يفكر الشاب المصري في الهجرة، يصطدم باشتراطات صعبة في العديد من الدول التي تتنافى مع مستوى التعليم والتدريب الذي تلقاه. وإذا سافر، يواجه خطر فقدان وظيفته أو الوقوع تحت طائلة القانون بسبب جهلهم بقوانين الدول الأخرى. هذه التحديات قد تدفعه إما للتخلي عن حلم الهجرة أو اللجوء إلى الهجرة غير الشرعية، التي قد تعرضه لمخاطر قد تصل إلى فقدان حياته.

 

اقرأ أيضًا:

 

أسئلة حول وفاة مصري طاردته الشرطة بإيطاليا

 

دوافع الشباب المصري للهجرة غير الشرعية.. ودور الدولة في حماية الشباب

 

خصام “غير مبرر” بين وزارتي التعليم العالي والعمل.. ماذا يفعل الشباب؟

 

 

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية