عشرات الأرواح تُزهق سنويًا تحت عجلات القطارات في مصر، أثناء عبورهم المزلقانات، فيما يتعرض الآلاف للخطر بسبب الإهمال في إدارة المزلقانات، فبين عائلات تنتظر أحبائها، وتجار يروّجون لأحلامهم، تأتي الكارثة فجأة، ممزقةً سكون اللحظات، مع كل حادث، تتجدد الصرخات وتتعالى النداءات لضرورة اعتماد التكنولوجيا الحديثة، التي باتت الحل الأمثل لإنقاذ الأرواح، فهل ستظل البلاد أسيرة نظام يدوي عتيق، بينما تتجدد آلام الفقد والخسارة في كل زاوية؟ واقع أليم يفرض علينا أسئلة حاسمة حول مستقبل النقل والسلامة في مصر.
تعُد مشكلة المزلقانات، -التي هي عبارة عن نقاط عبور على قضبان السكك الحديدية للمشاة والسيارات أثناء توقف القطارات-، من القضايا الجوهرية وراء حوادث القطارات في مصر، وتضم البلاد حوالي 3100 مزلقان غير منظم بالإضافة إلى 1332 مزلقانًا رسميًا، ومعظمها لا يزال يعمل بشكل يدوي، ويُطلق المواطنون على هذه النقاط لقب “مراكز الموت”، نظرًا لعدم أمانها الكامل، تم إنشاء العديد من هذه المزلقانات في مناطق سكنية وزراعية، دون وجود ممرات أو جسور لتسهيل عبور المشاة، وتشير التقديرات الرسمية إلى أن 50% من حوادث القطارات تقع عند هذه النقاط، بينما تأتي حوادث السقوط على خطوط السكك الحديدية الطويلة والقصيرة في المرتبة الثانية، يليها اصطدام القطارات بالمركبات في مناطق غير مخصصة، وحرائق القطارات.
تقنية ATC كلمة السر
13627 حادث قطار شهدتها مصر ما بين أعوام 2011 وحتى 2023، وفقًا للأرقام الرسمية التي أطلقها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وكان أخرها الحادث الذي وقع في 14 من سبتمبر 2024 بتمام الساعة السادسة ودقيقة، محافظة الشرقية شهدت، حادثًا مأساويًا بعدما تصادم قطارين قرب مزلقان الجمباز في شارع الحمام، مما أدى إلى وفاة أربعة أشخاص وإصابة 49 آخرين بإصابات متنوعة تتراوح بين الكسور والسحجات، عندما بدأت النيابة العامة تحقيقاتها مع سائقي القطارات المعنية، حيث استدعت عمال التحويلة وسائقي القطارات للاستماع إلى أقوالهم. كشفت أن الحادث قد نتج عن خطأ بشري، وجرى تشكيل لجنة فنية للتحقيق في التفاصيل الفنية للحادث، والتي يُرجعها البعض إلى اعتماد السائقين على تعليمات صادرة عن الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير النقل، والتي أجاز فيها للسائقين بالتخلي عن تقنية ATC في بعض الأماكن؛ نظرًا لتسببها في بطء الحركة وتأخر القطارات، حيث أكد أنه تفاديًا لتأخر القطارات أجاز للسائقين فصل هذه التقنية وأن يسير بسرعة بطيئة من أجل السيطرة على القطار.
مطالب بتعديل نظام المزلقانات
إبراهيم عكاشة، 47 عامًا، من مدينة ديروط بمحافظة أسيوط، تحدث لمنصة “MENA”، عن مشكلة المزلقانات في منطقته بعد تطويرها، قائلاً: “بعد تطوير المزلقانات، أصبحت مغلقة من جانب واحد فقط، ما يؤدي إلى عبور الجميع من الاتجاه المفتوح دون الانتباه. المشكلة تكمن في تصميم المزلقان نفسه، حيث يظن الناس أن القطار بعيد، فيفاجئون بقدومه وتقع الحوادث.”
وأضاف إبراهيم: “في منطقتنا، لا توجد مزلقانات عشوائية، لكن الناس تمر من الجهة المفتوحة دون أن تدرك خطورة الموقف، وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها المواطنون، يكون الانتباه أقل، مما يزيد من احتمالية وقوع الحوادث.”
وأشار إلى أن الأهالي يطالبون وزارة النقل، الجهة المعنية والمسؤولة، بتعديل نظام المزلقانات ليُغلق من الجانبين، واختتم حديثه قائلاً: “نحن نطالب بحلول بسيطة وبتكاليف منخفضة، مثل تركيب سلسلة أو حاجز في الاتجاه المفتوح لمنع عبور الناس أثناء مرور القطارات، هذا إجراء بسيط يمكن أن يقلل من عدد الحوادث بشكل كبير.”
“نحن نأمل أن يكون لدينا مزلقان شرعي في المنطقة، حيث تحدث العديد من الحوادث بسبب استخدام الأهالي لممر غير شرعي لعبور السكك الحديدية، ذلك لأن الوصول إلى الجهة الأخرى يتطلب وقتًا طويلًا جدًا، لذلك، نطالب بوجود مزلقان شرعي أو بناء جسر يساعد الناس على العبور بأمان، خاصة وأن الطريق السريع يؤدي إلى مناطق مثل طرانيس العرب والسنبلاوين.” هكذا يروي محمد الديب، 38 عامًا، من محافظة الدقهلية، معاناته لمنصة “MENA”.
يضيف محمد عن أزمة المزلقانات في قريته: “هذا المكان يشهد العديد من الحوادث، وكان آخرها حادثة مؤلمة أودت بحياة ثلاثة أشخاص صدمتهم سيارة وهم لم يروا القطار قادمًا. نحن نطالب بأن يتم إنشاء ممر شرعي يُغلق بشكل آمن ومنظم، بالإضافة إلى بناء جسر كهربائي ينقل الناس إلى الجهة الأخرى ويضمن سلامتهم.”
تقصير حكومي وإعلامي يهدد حياة المواطنين
يرى الدكتور فريدي البياضي، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، أن أزمة المزلقانات مسئولية مشتركة تتحملها الحكومة بقطاعاتها المختلفة، بدءًا من وزارة النقل المسئولة عن تامين حركة القطارات والمزلقانات لوزارة الداخلية المسئولة عن المرور العشوائي والتخطيط العشوائي للمرور في شوارع رئيسية وفرعية.
فيما يشير الخبير في النقل والطرق في تصريحات خاصة لمنصة “MENA”، إلى أن هناك دور كبير أيضًا ومسؤولية يتحملها رجال الإعلام والثقافة، الذين لا يقومون بالدور التوعوي للمشاركين والمستخدمين للطرق والمركبات المختلفة، مؤكدًا أن المجتمع يحتاج إلى التوعية الدائمة عبر أبواق الإعلام المختلفة، من أجل الشعور بخطورة الأمر، والابتعاد عن العشوائية في المرور من أمام المزلقانات، والابتعاد عن التسرع في المرور سواء ناحية القطارات أو السيارات.
الدكتور البياضي يتحدث عن رؤيته لما ينقص الأحياء المصرية، مؤكدًا أننا بحاجة إلى تخطيط صحيح للشوارع بحارات مرورية ولافتات دقيقة في أماكن صحيحة وكذا مراعاة القواعد الدولية في سلامة الطرق، والأهم من ذلك المحاسبة لأي مخالف أو مقصر، الضلع الأخر في هذه المُعادلة هو الاهتمام بميكنة الإشارات ومزلقانات القطارات واتباع كل آليات السلامة ووضعها أولوية في الميزانيات التي يتم إنفاقها حتى قبل التريليونات التي يتم إنفاقها على مشروعات جديدة لم يتضح بعد جدواها الاقتصادية.
مسلسل إهدار الدماء لا يتوقف
حوادث القطارات في مصر مسلسل بأجزاء مفتوحة ليست لها نهاية، كلما تنتهي من جزء تجد الذي يليه يُسارع الأيام واللحظات ليسطر صفحة جديدة من الألم داخل قلوب المصريين، ففي عام 2013، شهدت مدينة البدرشين حادثين مروعين في نفس المنطقة، في يناير، انحرفت العربة الأخيرة من قطار يقل مجندين من قوات الأمن المركزي، ما أدى إلى مقتل 17 مجنداً وإصابة أكثر من 100 آخرين. ثم، في نوفمبر، اصطدم قطار بمركبتين، حافلة وسيارة، مخلفاً 27 قتيلاً و34 جريحاً.
أما في مارس 2015، فاصطدمت حافلة مدرسية بقطار بضائع في محافظة الغربية بعدما عبر السائق من معبر غير قانوني أنشأه صاحب مزرعة مجاورة. هذا الحادث أسفر عن مقتل سبعة أطفال وإصابة 25 آخرين.
فبراير 2016، انقلبت عربتان من قطار ركاب كان في طريقه من أسوان إلى القاهرة، مما تسبب في إصابة 72 شخصاً نتيجة خروج العربتين عن مسارهما.
أما في أغسطس 2017، فقد شهدت مدينة الإسكندرية حادثًا مميتًا، حيث اصطدم قطاران للركاب؛ أحدهما قادم من القاهرة والآخر متجه إلى بورسعيد. الحادث أسفر عن وفاة 41 شخصاً وإصابة أكثر من 120 آخرين.
في فبراير 2018، وقع حادث تصادم بين قطار ركاب وقطار بضائع في محافظة البحيرة، مما أدى إلى مصرع 12 شخصاً بعد خروج عربتين من قطار الركاب عن القضبان.
فبراير 2019، شهدت مصر حادثين متتابعين؛ الأول في محطة رمسيس بالقاهرة، حيث اصطدم قطار بحاجز أسمنتي، ما أدى إلى مقتل 28 شخصاً وإصابة 52 آخرين. وفي الحادث الثاني، اصطدم قطار بسيارة نقل على خط (مطروح – الإسكندرية)، وأسفر عن مصرع شخص وإصابة 6 آخرين.
في مارس 2021، اصطدم قطار ركاب بآخر من الخلف في مركز طهطا بمحافظة سوهاج، مما أدى إلى خروج ثلاث عربات عن القضبان، وأسفر الحادث عن مقتل أكثر من 30 شخصاً وإصابة العديد.
وفي أبريل 2021، خرج قطار عن القضبان بالقرب من مدينة طوخ بمحافظة القليوبية، وأسفر الحادث عن وفاة 11 شخصاً وإصابة 98 آخرين، بينهم مسؤول قضائي بارز كان على متن القطار.
أما في سبتمبر 2022، فوقع حادث آخر في مدينة فاقوس بمحافظة الشرقية، حيث اصطدم قطار بحافلة ركاب صغيرة، ما أسفر عن ثلاث وفيات و11 جريحاً.
وفي مارس 2023، خرج قطار ركاب عن مساره في مدينة قليوب، ما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة نحو 20 آخرين، بعضهم إصاباتهم كانت خطيرة.
اقرأ أيضًا:
ما تبعات “التحول إلى الدعم النقدي” على أسعار السلع؟
بعد وقف استيرادها.. متى يَهْنأُ ذوو الهمم بسياراتهم؟
انسحاب مستثمرين من مشروع تطوير أرض مصرية.. من الخاسر؟
الخلل التقني العالمي.. هل عطل القطاعات المصرية؟
سرقة التيار الكهربائي والحذف من التموين.. ماذا عن “القانون”؟