تُعد مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، إذ استوردت خلال العام الماضي قمحاً بقيمة 3.9 مليار دولار، مقارنة بـ3.18 مليار دولار في العام 2021، بزيادة قدرها 724 مليوناً و417 ألف دولار. وقد شكلت واردات القمح جزءاً كبيراً من إجمالي فاتورة الواردات المصرية التي بلغت 88 مليار دولار، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
في هذا السياق، تساءل الدكتور إلهامي الميرغني، الخبير الاقتصادي، مندهشا: “كيف لدولة عرفت الزراعة منذ آلاف السنين أن تصبح أكبر مستورد للقمح في العالم؟ ولماذا لم تضع خططا لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح والذرة؟”. وأشار إلى أن الاعتماد على الخارج في السلع الأساسية يزيد من الفجوة الغذائية، مثل السكر الذي نستورد ثلث احتياجاتنا منه، مضيفاً: “حتى الغاز، أصبحنا نستورده من العدو الصهيوني، في إشارة لإسرائيل”.
وأوضح الميرغني أن استيراد السلع الأساسية تسيطر عليه احتكارات لا يتجاوز عددها عشرة كيانات.
وواصل: “لا فرق بين احتكار الدولة واحتكار القطاع الخاص إذا كانت النتيجة واحدة، وهي الاعتماد على الخارج دون وجود خطط لتحقيق الاكتفاء الذاتي”.
وأضاف الميرغني: “عندما يعتمد الاقتصاد على الخارج، فإنه يفقد سيطرته على السياسات الاقتصادية، كما يؤدي تراكم الديون إلى فرض قيود على الاستثمار الحر. ومع ندرة العملات الصعبة وسيطرة الاحتكارات الحكومية والخاصة، يصبح الاقتصاد رهينة لهذه التحديات”.
وأشار إلى أن الجهات التي تعتمد على الاستيراد بدلاً من الإنتاج تسعى لتحقيق أقصى ربح ممكن، مضيفاً: “في بلد يزيد عدد سكانه عن 105 ملايين نسمة، تصبح السلع الغذائية مثل القمح واللحوم هدفاً للمستوردين لتحقيق الأرباح، بغض النظر عن كونهم جهات حكومية أو خاصة”.
من جانبه، قال اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات الحربية سابقاً، إن المساحة المزروعة من القمح في مصر لا تكفي حجم الاستهلاك المتزايد، مؤكداً أن الدول الكبرى مثل أمريكا وروسيا وأوكرانيا وفرنسا تهيمن على سوق القمح العالمي.
وأضاف رشاد: “من الطبيعي أن تحتكر الدولة والجيش استيراد القمح لضمان عدم حدوث مضاربات في أسعار الغذاء، خاصة أن بعض المستوردين يهدفون لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المواطنين”.
وأوضح أن تقليص عدد الجهات المسؤولة عن استيراد القمح يساعد في خفض التكاليف والحد من تدخل السماسرة الذين يتسببون في رفع الأسعار بمعدلات تفوق السعر العالمي.
ليبقى السؤال قائماً حول سبل تحقيق الاكتفاء الذاتي في مصر، خاصة في ظل تزايد الاعتماد على الاستيراد وارتفاع أسعار الدولار. فهل يمكن للدولة أن تتخذ خطوات جادة نحو زراعة مساحات أكبر من القمح لتحقيق أمن غذائي مستدام؟، أم أن الاعتماد على الخارج سيظل السمة الأبرز للسياسات الاقتصادية في هذا المجال؟
وشار الخبير الاقتصادي شريف الدمرداش إلى أن القوانين العالمية تمنع الاحتكار لما له من آثار سلبية على الاقتصاد. وقال: “الاحتكار ممنوع دولياً، وقد شهدنا تفكيك شركات كبرى في الولايات المتحدة بسبب مخالفتها لهذه القوانين. ومع ذلك، فإن مصر لها خصوصية وظروف خاصة لا تنطبق عليها قوانين الدول الأخرى”.
من جانبه، أوضح الدكتور محمد عبد ربه، مدير المعمل المركزي للمناخ، أن مصر تزرع القمح بالفعل، لكن المساحات المزروعة تعاني من الثبات بسبب محدودية الموارد المائية وقلة الرقعة الزراعية. وأشار إلى وجود نظام يُعرف بـ”القمح برسيم”، حيث يتم تقسيم الأرض الزراعية بين زراعة القمح والبرسيم لضمان تلبية احتياجات الإنسان والحيوان.
وأضاف عبد ربه: “زراعة القمح أصبحت مربحة اليوم بفضل السياسات الحكومية التي تتحكم في التموين الغذائي. الفلاح يزرع القمح ليس فقط لتأمين غذائه، بل أيضاً للتربح، خاصة أن القمح محصول شتوي لا يستهلك كميات كبيرة من المياه مقارنة بمحاصيل مثل الأرز”.
وأكد أن الدولة تشجع على زراعة القمح من خلال المحاصيل التعاقدية، حيث تشتري القمح من المزارعين بأسعار تنافس الأسعار العالمية. كما أن القمح يمكن زراعته في أنواع متعددة من التربة، سواء الطينية أو الرملية، ما يجعله محصولاً مرناً يتحمل ظروفاً بيئية صعبة مثل الملوحة العالية في شمال وجنوب سيناء.
وأشار عبد ربه إلى أن وزارة الزراعة تضع سياسات تحفيزية للمزارعين لزيادة إنتاج القمح، مثل الزراعة التعاقدية التي تضمن للمزارع معرفة مكاسبه قبل الزراعة. وأضاف: “هناك منافسة بين المطاحن والقطاع الخاص على شراء القمح قبل موسم التوريد، ما يضمن عدم تعرض المزارع لخسائر”.
وتحدث عن تطور القدرات التخزينية للدولة قائلاً: “ارتفعت القدرة التخزينية للصوامع من مليون طن إلى 6 ملايين طن، ما ساهم في زيادة الكميات الموردة للمطاحن. والدولة تتعامل مع المزارع كشريك اقتصادي، حيث تضمن له تحقيق مكاسب تغطي التزاماته وتضمن استمرارية العملية الإنتاجية”.
وأكد عبد ربه أن الدولة استصلحت حوالي مليون فدان تمت زراعتهم بمحاصيل استراتيجية مثل القمح وبنجر السكر والبرسيم الحجازي.
وأضاف: “رغم جهود الدولة في الاستصلاح، فإن محدودية الموارد المائية تعد العامل الأساسي الذي يحد من التوسع الزراعي. لذلك، تعمل الحكومة على إنشاء وحدات معالجة مياه لتوفير أكبر قدر ممكن من المياه الصالحة للزراعة”.
وأشار أيضاً إلى تأثير التغيرات المناخية والظروف السياسية على سوق القمح العالمي، قائلاً: “روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وعندما يتراجع تصديرهما، ينعكس ذلك على مخزون القمح العالمي، ما يسبب أزمات في الحبوب الاستراتيجية الأخرى مثل الذرة والزيوت”.
فيما أشاد عبد ربه بدور مركز البحوث الزراعية في تحسين إنتاجية القمح قائلاً: “تمكنا من مضاعفة المحصول لأكثر من ثلاثة أضعاف من خلال تطوير أنواع جديدة من الحبوب، ما يمثل إنجازاً كبيراً في دعم الأمن الغذائي المصري”.
وقال الخبير الاقتصادي جودة عبد الخالق إنه ليس لديه معلومات كافية للحديث عن هذا الأمر، مؤكدًا على ضرورة توفر الشفافية في تداول المعلومات. وأضاف: “لا بد أن تكون هناك شفافية حتى نستطيع الحكم على هذه التجربة، سواء كانت جيدة أو سيئة”.
وأوضح عبد الخالق أن غياب المعلومات الدقيقة يعرقل تقييم السياسات الاقتصادية المتعلقة باستيراد القمح وإدارته، مشددًا على أهمية الشفافية لضمان اتخاذ قرارات فعالة تخدم الصالح العام.
اقرأ أيضًا:
الاكتفاء الذاتي من القمح.. حلم 100 مليون مصري
استيراد أكبر كمية قمح في تاريخ مصر.. خيار أم ضرورة؟
السفير جمال بيومي: مصر قدمت عرضاً لبناء سد النهضة
جدل لا يتوقف حول مصير أراضي طرح النيل