تحليلات

السد الإثيوبي يدخل مصر في مرحلة الفقر المائي.. ماذا بعد؟

 

على ضفاف النيل، تنساب مياه التاريخ متدفقة بحكايات الأمم وآمال الشعوب، لكنها اليوم تحمل في طياتها فصولًا من القلق العميق لأرض الكنانة والسودان. فقد ارتفعت جدران سد النهضة على مجرى النهر، مُجسدةً صلابة إرادة إثيوبيا، بينما انحسر خلفها طيف من المخاوف المصرية والسودانية، التي ترى في هذه المنشأة تهديدًا لحياتها وموروثها المائي.

 

بينما تشق إثيوبيا طريقها نحو تحقيق طموحاتها بيدَي أبنائها ومواردها، وتعتبر أن نهر النيل، الشريان الذي نبضت به حضارات عريقة، قد يتحمل عبء هذا الحلم الكبير، تقف مصر والسودان في مواجهتهما للرياح العاتية لخشيةٍ وجوديةٍ على حياتهما، حيث يُعد النيل ركيزة لا يمكن التفريط بها.

 

ومع تأكيد رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، استعداده لدعم جيرانه في حال تعرضهم لنقص المياه، تبرز التساؤلات: هل تستطيع هذه الكلمات أن تُخفف من وطأة القلق المصري والسوداني، أم أنها مجرد وعود لا تملك أمامها إلا أن تخفف من غضب النيل الذي لا يعرف التجزئة بين جيرانه؟

 

وفي تصريح له أمام البرلمان الإثيوبي، عرض أبي أحمد دعم بلاده لمصر والسودان إذا واجه أي من البلدين نقصًا في المياه، وذلك في ظل الجدل المستمر حول سد النهضة. أكد أحمد أن بناء السد، الذي أنجز بموارد وإمكانات إثيوبية خالصة، يُظهر قدرة إثيوبيا على تحقيق تطلعاتها التنموية، وفقًا لما نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية.

 

وتناول رئيس الوزراء الإثيوبي المخاوف المصرية والسودانية بشأن تداعيات السد على تدفق مياه النيل، مبرزًا أن حجز المياه تم بطريقة لم تُلحق ضررًا بالدول التي تقع على مجرى النهر.

 

وفيما يخص اتفاقية التعاون حول حوض النيل، التي دخلت حيز التنفيذ مؤخرًا لتنظيم الإدارة العادلة والمستدامة لمياهه، أكد وزير الري المصري، هاني سويلم، أن مصر لن تتنازل عن أي جزء من حصتها التاريخية من مياه النيل، وأنها لا تعترف بهذه الاتفاقية.

 

الخلافات حول سد النهضة بين مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، تمتد لسنوات، إذ ترى مصر أن السد يشكل تهديدًا وجوديًا لمواردها المائية، حيث تعتمد بنسبة 97% من احتياجاتها المائية على نهر النيل.

 

 

إثيوبيا تلعب بالنار

 

في رأي الدكتور أحمد دياب، خبير مياه بالأمم المتحدة، تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، تعكس تماديًا واضحًا من الجانب الإثيوبي إلى أقصى حدوده، في تجاهل صارخ للاتفاقيات الدولية التي تحكم توزيع مياه نهر النيل. هذه الاتفاقيات التي وافقت عليها إثيوبيا سابقًا واعترفت بها حدودها الجغرافية، تؤكد حقوق مصر التاريخية في مياه النهر.

 

ويرى في حديثه لمنصة “MENA” أن الأكثر من ذلك، أن الدولة المصرية، عندما كانت تحكم السودان، منحت إثيوبيا منطقة بني شنقول، وهي المنطقة التي بُني عليها السد حاليًا، بل وكانت هناك نزاعات سابقة مع كينيا تم حلها بمرونة لصالح إثيوبيا، ومع ذلك، فإن العقلية السائدة في إثيوبيا ترى أن المصريين بنوا حضارتهم على حسابهم، وهو تصور غير عادل ولا يستند إلى الواقع.

 

يستكمل الدكتور دياب: “ما يفعله الجانب الإثيوبي هو لعب بالنار، يبدو أنه لا يريد أن يمنح مصر حقوقها الطبيعية في المياه، بل يتصرف كأداة لدول أخرى لها مصالح على حدود مصر. في المقابل، مصر تواجه أزمة مياه طاحنة، حيث تعاني من شح في الموارد المائية، وهي لن تقبل المساس بنقطة مياه واحدة لأن ذلك يؤثر مباشرة على أمنها القومي والمائي.”

 

ويتابع حديثه: “إذا أرادت إثيوبيا السير وراء صوت العقل والمصلحة المشتركة، فعليها أن تدرك أننا جميعًا ننتمي إلى عرق إفريقي واحد تربطنا مصالح مشتركة. ينبغي عليها العودة إلى رشدها والتفكير في العلاقات التاريخية والمصالح المتبادلة مع مصر. أما بالنسبة لخيارات مصر في مواجهة هذا الوضع، فهي متعددة على المستويين الداخلي والخارجي.”

 

ويُوضح خبير المياه بالأمم المتحدة أنه على المستوى الداخلي، تسعى مصر لترشيد استخدام المياه وإعادة استخدامها في أكثر من دورة، إضافة إلى تحلية مياه البحر واختيار محاصيل زراعية أقل استهلاكًا للمياه. أما على المستوى الخارجي، فهناك نشاط دبلوماسي مكثف مع المنظمات الدولية والإقليمية، ومد جسور التواصل مع الدول الأخرى. وإذا استمر عناد أبي أحمد، فقد تضطر مصر إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية وتجارية وربما ما هو أبعد من ذلك. في نهاية المطاف، مصر لا تطالب إلا بحقوقها المائية المشروعة بموجب القوانين والاتفاقيات الدولية الملزمة للطرفين، ولن تسمح أبدًا بأن تتحكم إثيوبيا في مواردها المائية وفقًا لأهواء شخصية أو حسابات سياسية ضيقة.

 

 

قنبلة موقوتة

 

يرى الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بكلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، أن رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، يسعى بتصريحاته هذه إلى إقناع البرلمان الإثيوبي بأن مشروع سد النهضة قد اكتمل، وأن عمليات الملء قد انتهت دون أن تلحق أي أضرار بمصر والسودان. من منظور أبي أحمد، الأضرار التي يتحدث عنها ربما يرى أنها تكون عندما يعاني الشعب من العطش أو الجوع، وهذا ما يؤكد أنه لن يحدث. ورغم المحاولات الدبلوماسية الإثيوبية للتأكيد على عدم وجود ضرر على مصر والسودان، إلا أن هناك أضرارًا حقيقية قد حدثت بالفعل. تبدو إثيوبيا وكأنها تروّج لإنجازات السد أمام شعبها، وتصور فتح المياه كأنه تفضّل، في حين أن الأمر يعكس سيطرة كاملة على الموارد المائية.

 

الدكتور شراقي يضيف في تصريحات لمنصة “MENA“: “عمليات تخزين المياه في سد النهضة تمت بصورة فرض الأمر الواقع، ودون موافقة مصر والسودان. هذه الطريقة غير مقبولة، إذ اكتمل التخزين بحوالي 60 مليار متر مكعب على مدار خمس سنوات، وكان من الأولى أن يتم ذلك باتفاق مسبق وبموافقة الأطراف المعنية، مما كان سيجعلنا نبارك اكتمال السد. ولكن مع هذه الطريقة، فإن فتح البوابات ليس قرارًا اختياريًا كما تدّعي إثيوبيا، بل هو ضرورة حتمية بعد اكتمال التخزين. ومن غير المقبول أن يظهر الأمر وكأنه تفضّل من إثيوبيا أو كرم تجاه مصر والسودان، إذ أن تدفق المياه هو حق طبيعي وليس خيارًا تقدمه إثيوبيا.”

 

يشدد أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية على أنه من غير المقبول أن تتحكم أي دولة في تدفق المياه على النهر بشكل منفرد. فحق مرور المياه بشكل طبيعي إلى مصر والسودان غير قابل للتفاوض أو التحكم من طرف واحد، وأي عملية حجز يجب أن تكون بالتنسيق المسبق والموافقة المشتركة. وردًا على هذه التحركات، كانت مصر تقدم اعتراضًا رسميًا للأمم المتحدة بعد كل عملية تخزين، معتبرةً هذه الخطوة انتهاكًا لحقوقها المائية. وفي الوقت الحالي، هناك جهود دبلوماسية مصرية تهدف إلى استئناف الحوار ضمن الأطر الأممية بعد توقف المفاوضات في ديسمبر الماضي.

 

يستكمل الدكتور شراقي رؤيته للأمر بأنه ينبغي على مصر والسودان أن تتحركا بتقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن، تعبر فيها عن القلق من وجود خزان ضخم يمثل قنبلة مائية موقوتة تهدد الأمن والسلم في المنطقة. إذ قد ينهار السد بسبب الزلازل أو الفيضانات، مما يشكل خطرًا حقيقيًا، خاصة مع اكتمال الخزان. وفي الوقت الراهن، لم يتم الإعلان عن خطوات رسمية من جانب الخارجية المصرية بعد اكتمال الملء الأخير لسد النهضة، لكن من المؤكد أن الجهود مستمرة في إطار الحفاظ على حقوق مصر والسودان المائية.

 

 

قلق من مستقبل تدفقات المياه

 

الباحث في الشأن الإفريقي وحوض النيل، هاني إبراهيم، كان قد كشف عن تطورات دقيقة ومثيرة للقلق تتعلق بسد النهضة وتأثيراته على حوض النيل الأزرق، المصدر الرئيسي لتدفق مياه النيل إلى مصر، وسط تصاعد المخاوف. وصف إبراهيم استمرار عمل المفيض الغربي للسد بـ “الكارثي”، لقدرته على التأثير الحاسم على منسوب النيل الأزرق وتدفقه عبر الحدود السودانية.

 

وأظهرت صور الأقمار الصناعية ارتفاعًا ملحوظًا في منسوب النيل بالقرب من الحدود السودانية، ما يثير تساؤلات حول مستقبل تدفقات المياه. ورغم تراجع تدفق المفيض في 27 سبتمبر بعد تقليل عدد البوابات، إلا أن مقارنة الصور كشفت ارتفاعًا كبيرًا في 15 سبتمبر، ما أثّر لاحقًا على مستويات المياه في الخرطوم نتيجة تشغيل خزانات الروصيرص وسنار، وتأثر خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض بالتدفقات القادمة من سد النهضة.

 

ووفقًا للبيانات، شهد النيل الأزرق تقلبات في المناسيب، حيث وصل إلى 493.86 مترًا في 16 سبتمبر، قبل أن ينخفض إلى 492.29 مترًا في 26 سبتمبر، ليعود للارتفاع مجددًا في 6 أكتوبر إلى 492.47 مترًا. هذا التذبذب يعكس تواتر التدفقات والتأثيرات المباشرة لتشغيل السد، ما ينعكس بوضوح في صور الأقمار الصناعية التي وثقت هذه التقلبات.

 

كما سجل قطاع النيل الأزرق المتجه من بحيرة تانا نحو بحيرة السد الإثيوبي ارتفاعًا بلغ 1.5 متر مقارنة بالعام السابق، مما يعود جزئيًا إلى ارتفاع منسوب بحيرة تانا. إذ تم تمرير كميات ضخمة من المياه بهدف خفض مستواها بين 19 و29 سبتمبر بمقدار 10 سم، أي ما يعادل حوالي 300 مليون متر مكعب.

 

ورغم الجهود المبذولة لتخفيف منسوب بحيرة تانا، لم يتم توثيق الأرقام بدقة خلال هذه العملية بسبب تأثيرات الأمطار وتشغيل الخزانات المحيطة، مما زاد من تعقيد قياس التغييرات.

 

ويشير الباحث إبراهيم إلى أن منسوب النيل الأزرق المتجه نحو السودان سيظل محكومًا بتدفق المياه التي تؤدي إما إلى ارتفاع مستوياتها في الخرطوم، أو تراجعها مؤقتًا، مع احتمالية تزايد المناسيب قريبًا. كما أن استمرار تدفقات المياه نحو السد الإثيوبي قد يُبقي على تشغيل المفيض الغربي حتى نوفمبر.

 

في النهاية، يبقى نهر النيل شريان حياة مشتركًا يربط بين شعوب المنطقة عبر آلاف السنين، رمزًا للوحدة والتكامل بدلاً من الانقسام والتنازع. وفي مواجهة التحديات الراهنة، لا تزال مصر تؤكد أن التعاون المشترك والحوار القائم على العدالة والاحترام المتبادل هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل مستدام للجميع. فالأنهار، كما التاريخ، لا تقبل أن تُحتجز خلف السدود أو تُدار بمنطق السيطرة، بل تجري بحكم الطبيعة لترسم ملامح حياة الشعوب وأحلامها. وبينما يسعى البعض لاحتكار مياه النهر، ستظل مصر تدافع عن حقها الأصيل، مؤمنة بأن العدالة المائية ليست مجرد مطلب، بل قضية وجود.

 

اقرأ أيضًا:

 

هل يتحول سد النهضة إلى ورقة مصرية خلال ولاية ترامب الثانية؟

 

السفير جمال بيومي: مصر قدمت عرضاً لبناء سد النهضة

 

سفينتان تنقلان مواد متفجرة إلى إسرائيل.. قصة المرور وسبب الجدل

 

من رماد الربيع العربي إلى غبار الحروب.. هل تخلى أبو الغيط عن مسؤوليات الجامعة العربية؟

 

منار بحيري
صحفية مصرية متهمة بالتحقيقات والتقارير المعمقة وعضو نقابة الصحفيين وحاصلة على ماجستير الإعلام في صحافة الذكاء الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

اشترك في نشرتنا الاخبارية