رفع الرايات البيضاء والتشميس أبرز أحكام المجالس العرفية
يُعد القضاء العرفي المحكمة المدنية لحياة أهالي شمال سيناء، ويمثل ترمومترًا للحياة البدوية في المنطقة، إذ يعتمد على العادات والتقاليد كإرث متوارث بين الأجيال.
يُسهم هذا النظام في الحفاظ على أمن واستقرار المجتمع السيناوي، لما يتمتع به من ثقة بين الأهالي، ومناسبته لطبيعة الحياة الصحراوية.
كما أنه يلعب دورًا رئيسيًا في تنظيم السلوك الاجتماعي، وترسيخ القيم والأخلاق المجتمعية، إلى جانب تحقيق المساواة والعدل.
أكد الشيخ محمد علي الهرش، أحد مشايخ قبيلة البياضية بقرية رابعة في شمال سيناء، أن القضاء العرفي يُعد الحل البديل للقضاء القانوني في شبه جزيرة سيناء.
وأوضح أن أكثر من 70% من القضايا والمشكلات تُحل من خلال القضاء العرفي، فيما يلجأ الأهالي للقضاء الرسمي بنسبة قليلة، وذلك انطلاقًا من الإرث الذي تناقلوه عن آبائهم وأجدادهم.
وأضاف الهرش في تصريحات خاصة “لمنصة MENA“، أن هناك تنسيقًا بين القضاء العرفي والأجهزة الأمنية.
ففي كثير من الأحيان، تُحال القضايا التي تصل إلى أقسام الشرطة إلى المشايخ والقضاة العرفيين للنظر فيها، بهدف تهدئة الأجواء واحتواء النزاعات، بما يحافظ على الأمن والاستقرار بين القبائل وسكان شبه الجزيرة.
أوضح الشيخ الهرش أن القضاء العرفي يختص بجميع أنواع القضايا، سواء كانت تتعلق بالمرأة، العرض، الدم، أو حتى الاشتباكات اللفظية والجسدية.
وأضاف أن هناك قضاة متخصصين في قضايا محددة، فبعضهم يُسند إليه قضايا النساء، وآخرون لحل مشكلات الأراضي، بينما يتولى فريق ثالث القضايا المتعلقة بالدم.
كما أشار إلى أن القاضي العرفي يُختار بناءً على موافقة طرفي النزاع، دون أن يكون الأمر بالضرورة مرتبطًا بالوراثة.
فيما يُراعى في اختيار القاضي السيرة الذاتية، المكانة الاجتماعية، قوة القبيلة، والخبرة، وغالبًا تُحل القضايا في جلسة واحدة، إلا أن الأمر قد يستدعي عقد جلسات متعددة وفقًا لتعقيد النزاع.
تحدث الهرش عن أن الأحكام الصادرة عن القضاء العرفي غالبًا ما تتضمن دفع أموال كتعويض، ويتحرك الوجهاء والمشايخ لضمان تنفيذ الأحكام. وأحيانًا، يتنازل أصحاب الحقوق عن مستحقاتهم احترامًا للمشايخ، بينما يتمسك آخرون بحقوقهم كاملة أو بجزء منها.
وفي القضايا التي تمس الأعراض، قد تشمل الأحكام رفع الرايات البيضاء من قبل الطرف المخطئ كرمز للاعتذار للطرف المعتدى عليه. يُعتبر هذا الإجراء أحد أبرز أعراف القضاء العرفي في سيناء، ويعكس قيمًا راسخة تهدف إلى إنهاء النزاعات واستعادة السلم المجتمعي.
وصرح الشيخ حميد منصور حميد، رئيس الاتحاد المصري للقبائل العربية، بأن القضاء العرفي ما زال يحتفظ بمكانته في المجتمع البدوي، حيث يُعتمد عليه في حل أغلب القضايا المتعلقة بالأراضي، المشاجرات، والمسائل المادية.
وأوضح أن جلسات القضاء العرفي تُعقد بحضور الطرفين وقاضٍ عرفي مشهود له بالنزاهة، ويتم التنسيق مع الأجهزة الأمنية في القضايا الهامة لضمان تنفيذ الأحكام.
وأضاف حميد في تصريحات “لمنصة MENA” أن من بين القضايا التي يتم الفصل فيها عرفيًا، مشاكل الأعراض، القتل الخطأ، الطلاق، والقضايا المتعلقة بتجارة السيارات.
وأكد أن لكل نوع من القضايا قضاة متخصصين، ما يعزز الاستقرار الاجتماعي في هذه المناطق. وأشار إلى أن بعض الأجهزة الأمنية خصصت مخيمات لحل النزاعات عرفيًا بحضور القاضي العرفي، مع التنسيق لوضع صيغة قانونية تراعي عدم الخروج عن القانون.
دعا حميد إلى توفير حافز شهري للقضاة العرفيين تقديرًا لجهودهم الكبيرة في حل النزاعات، مشيرًا إلى أن هؤلاء القضاة لا يوفرون الوقت فحسب، بل يقدمون كرم الضيافة خلال الجلسات.
وأوضح رئيس الاتحاد أن القضايا الهامة مثل القتل يتم إحالتها إلى مشايخ قبائل معينة، بينما تُسند قضايا الطلاق والنساء إلى قضاة من قبائل أخرى.
وأضاف: “أما القضايا البسيطة، فيمكن لأي شيخ عرفي مشهود له بالنزاهة أن يفصل فيها. وأشار إلى أن الأحكام غالبًا ما تعتمد على حلف اليمين، أو دفع “الدية” في حالات القتل، بينما تُقسم المبالغ المادية بين الأطراف في القضايا المتعلقة بالمعاملات المالية”.
من جانبه، قال الشيخ عبدالحميد الأخرسي، أحد مشايخ قبيلة الأخارسة بمدينة بئر العبد، إن القضاء العرفي هو ترمومتر الحياة البدوية.
وأوضح أن هذا النظام شفهي غير مكتوب، ويُورث بين الأجيال، ويسهم في حل النزاعات وترسيخ القيم الأخلاقية مثل العدالة، المروءة، التسامح، والمحبة بين أبناء القبائل.
وأضاف الأخرسي في تصريحات “لمنصة MENA“، أن القضاء العرفي يختص بالقضايا المتعلقة بالدم، مثل القتل والجروح، سواء أكانت ناجمة عن الضرب أو استخدام أدوات حادة.
وأشار إلى أن القضايا تبدأ بمراحلها الأولى على أيدي الكبار أو “الملم”، ثم تُحال إلى القضاة العرفيين المختصين، لافتًا إلى أن قبيلة “بلي” تُعد من أشهر القبائل المتخصصة في قضايا الدم.
أبرز الأخرسي التنسيق القائم بين القضاء العرفي والأجهزة الأمنية، والذي يهدف إلى تعزيز العدالة الناجزة وسرعة الفصل في القضايا.
وأكد أن هذا التعاون يُسهم في تحقيق استقرار مجتمعي وتنظيم اجتماعي بين القبائل، مما يعزز الأمن ويقلل من النزاعات في المجتمع السيناوي.
وأوضح شيخ قبيلة البياضية، أن قضايا النساء تأتي في المقدمة، ففي العرف البدوي تُعتبر النساء خطًا أحمر، حيث تتمتع المرأة بحصانة داخل بيتها وخارجها. تختص قبيلة المساعيد بقضايا النساء، ويُطلق على القاضي المختص بقضايا المرأة “المنشد”.
كما أوضح أن هناك قضايا أخرى مثل السرقة، ومنها سرقة الإبل، ولها قاضي مختص يُعرف باسم “الزيادي”، والذي ينظر في أمور سرقتها ووثاقها. أما قضايا الأحوال الشخصية، مثل الطلاق والاعتداء على العرض، فيختص بها قاضٍ يُعرف باسم “العقبي”، وسُمي كذلك لأن أغلب القضاة في هذا المجال ينتمون إلى بني عقبة.
يتبع المجلس العرفي نهجًا يبدأ بالصلح بين الأطراف وسماع الحجج، وإذا رفض الطرفان الصلح، يتم إصدار العقوبات المناسبة. تشمل هذه العقوبات المادية والمعنوية، مثل رفع راية بيضاء أو سوداء في مكان عام، أو استخدام “البشعة” (لحس النار) لإثبات البراءة أو الإدانة. كما تشمل العقوبات “التشميش”، وهو النفي من المكان، أو السير حافي القدمين مع تعرية جزء من الجسم.
وذكرت دراسة بعنوان “القضاء العرفي كآلية للضبط الاجتماعي بمحافظة شمال سيناء”، أعدها حسين محمد تهامي، أستاذ قسم الاجتماع الريفي بمركز بحوث الصحراء، أن القضاء العرفي يتضمن تخصصات مختلفة حسب نوع القضايا.
مجلس الكبار للقبائل: يُعرض النزاع عليه أولا، وعادة تحل معظم القضايا داخله.
قضاة منقع الدم: مختصون بقضايا القتل العمد أو الخطأ والإصابات الجسدية، وينتمون غالبًا إلى قبائل بلي أو الحويطات.
قضاة أهل الديار: من قبيلة الترابين، ويختصون بنزاعات ملكية الأراضي.
قضاة المناشد: يعالجون قضايا المرأة مثل الاعتداء على العرض والاغتصاب.
قضاة الزيود: يُعالجون قضايا الاعتداء على الممتلكات، مع مضاعفة العقوبات لضمان الأمن.