خبير: اتفاقية اليونسكو تمنع مصر من استرداد الآثار المهربة
المشكاة خرجت من مصر في عهد الدولة العثمانية مثل حجر رشيد
استعادت مصر 29 ألف قطعة أثرية في عهد السيسي
سجلت دار المزادات البريطانية “بونهامز” رقمًا قياسيًا جديدًا بعد بيعها قطعة أثرية مصرية نادرة، وهي “مشكاة زجاجية” تعود لمسجد ومدرسة السلطان سيف الدين صرغتمش بحي السيدة زينب في القاهرة، بمبلغ 6.5 مليون دولار.
هذا البيع أثار جدلاً واسعًا بين الخبراء والمختصين، إذ اعتبره البعض غير قانوني وطالبوا بعودة القطع الأثرية المهربة إلى مصر، بينما رأى آخرون أنه قانوني لأن القطعة خرجت من البلاد قبل صدور قوانين تجرّم بيع الآثار وتهريبها.
فتح هذا الحدث الباب أمام موجة من التساؤلات على مواقع التواصل الاجتماعي حول كيفية خروج هذه القطعة من مصر، خاصة وأنه ليس البيع الأول لآثار مصرية في المزادات العالمية.
وعلّق عماد الشال متسائلًا: “كيف وصلت هذه القطعة إلى لندن في المقام الأول؟”، بينما دعا محمود عزيز إلى كشف الحقائق حول قطع أثرية أخرى هُرّبت إلى الخارج، وقال: “أين السرير الفضة الذي اختفى من قصر محمد علي؟”.
وفي السياق ذاته، قال مدحت هارون: “مسجد صرغتمش كان يُستخدم لتدريس علم الحديث النبوي في عصر المماليك. السؤال الأهم: كيف خرجت هذه القطعة من مصر؟!”.
وعلى الجانب الآخر، سخر أبو عمر من الواقعة قائلًا: “ربما لم تكن القطعة مسجلة ضمن سجلات هيئة الآثار، ومرت من المطار على أنها خردة”.
بينما أبدى هيثم محمد استياءه من الإهمال الذي تتعرض له الآثار المصرية، قائلاً: “مسجد صرغتمش نفسه مغلق ويعاني من الإهمال الشديد. كيف يستفيد العالم من آثارنا بينما نحن نهملها وندمرها؟”.
يعتقد أن رحلة المشكاة الأثرية، التي يبلغ عمرها حوالي 700 عام، غادرت مصر قبل أكثر من 150 عامًا. وتعود ملكية أولى نسخها إلى الدبلوماسي والباحث الفرنسي وجامع التحف “تشارلز هنري أوجست شيفر”، الذي توفي عام 1898. وقد اقتناها خلال رحلاته الدبلوماسية إلى سوريا ومصر في خمسينيات القرن التاسع عشر.
وأشار الصحفي الفرنسي هنري لافوا إلى أن شيفر استغل معرفته الواسعة لجمع أبرز نماذج الأواني الزجاجية الإسلامية خلال أسفاره، وركز بشكل خاص على التحف النادرة من الشرق الأوسط.
وبعد وفاة شيفر، بيعت مجموعته الفنية، بما في ذلك المشكاة، في مزاد علني أقيم في دار “دروو” بباريس.
وأوضح الباحث التاريخي محمود محمد حسن أن المشكاة انتقلت عبر أيدٍ عديدة، إلى أن وصلت لعائلة نوبار باشا. وأضاف أن القطعة ربما تكون قد تعرضت للتقليد في إحدى المراحل.
وفي تصريح خاص لمنصة “MENA“، أشار حسن إلى أن “القطع الأثرية من هذا النوع لا تُسجل رسميًا إلا بعد فحصها من قبل لجان مختصة”. وضرب أمثلة بمواقع أثرية خضعت للتوثيق لاحقًا، مثل مدرسة السلطان حسن، وجامع الرفاعي، ومدرسة الظاهر برقوق بشارع المعز.
وأكد حسن أن خروج المشكاة منذ فترة طويلة دون تسجيل رسمي أو رقم أثري يحرم مصر من المطالبة القانونية باستردادها، حيث تعتمد هذه الإجراءات على توثيق الأثر عند خروجه.
صرّح الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، في تصريحات خاصة لمنصة “MENA“، بأن المشكاة الأثرية هي قطعة زجاجية نادرة ومزخرفة بصورة إبداعية فريدة. تعود المشكاة إلى مسجد ومدرسة السلطان سيف الدين صرغتمش، التي لا تزال قائمة بجانب مسجد أحمد بن طولون في القطائع القديمة بحي السيدة زينب.
وبشأن إمكانية عودة المشكاة إلى مصر، أشار شاكر إلى أن القانون المصري قبل صدور القانون رقم 117 لسنة 1983 كان يسمح ببيع وتملك الآثار، مما يجعل خروجها قانونيًا.
وأوضح أنها تباع حاليًا بطرق قانونية، مثلما حدث مع تمثال “سخم كا” من الدولة القديمة الذي بيع في مزاد بلندن عام 2016 مقابل حوالي 16 مليون جنيه إسترليني.
وأضاف أن المشكاة كانت ضمن مقتنيات مدرسة السلطان صرغتمش بالقاهرة قبل أن تنتقل بين أيدي هواة التحف. وظهرت لأول مرة في القرن التاسع عشر ضمن مجموعة هاوي التحف الفرنسي شارل هنري أوجوست شيفير، الذي جلبها إلى باريس. وقد كان شيفير، المولود عام 1820، مترجمًا معتمدًا ومقربًا من السلطان العثماني.
وأكد شاكر أن المصباح زار خلال ملكية شيفير ثلاثة متاحف بارزة، على رأسها متحف اللوفر، وجرى تصويره في عشرة كتب متخصصة في الفن والتحف خلال تلك الحقبة.
وأوضح أن المشكاة انتقلت لاحقًا إلى حيازة بوغوص نوبار، نجل أول رئيس وزراء مصري. استخدمت عائلة نوبار المشكاة كزهرية للورد الجاف، وظلت بحوزتهم نحو قرن من الزمان، قبل أن يبيعها ورثة أركيل نوبار من خلال دار مزادات.
وأشار كبير الأثريين إلى أن المشكاة تتميز بشكلها المستدير المحاط بستة مقابض، وزُينت بالميناء الملونة بالأخضر والأزرق والأبيض. كما تحمل المشكاة نقوشًا نباتية بأشكال أشرطة، بالإضافة إلى نصوص دائرية بخط الثلث.
وتتضمن النصوص الآية القرآنية: “الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح”. وتنسب الكتابات صناعة المشكاة إلى الأمير سيف الدين صرغتمش، الذي كان مقربًا من السلطان الناصر قلاوون قبل أن ينقلب عليه الأخير ويأمر بقتله.
واختتم شاكر بأن طلاء المشكاة بالمذهب والميناء يعكس أسلوبًا فنيًا ازدهر خلال عصر المماليك. وقد كان هذا النمط يستخدم في المساجد خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
وصرّح الدكتور عبد الرحيم ريحان، خبير الآثار وعضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، أن مصر يحق لها طلب التحقق من وثائق ملكية المشكاة من دار “بونهامز”، التي أعلنت عبر صفحتها أنها تمتلك هذه القطعة الأثرية.
وفيما يتعلق بإمكانية استعادة المشكاة، أشار ريحان في تصريح خاص لمنصة “MENA” إلى أن خروجها بشكل شرعي في عهد الدولة العثمانية من خلال عملية بيع وتناقل ملكيتها يجعل من المستحيل استعادتها قانونيًا إلى مصر.
وأوضح ريحان أن خروج الآثار من مصر كان يتم بشكل قانوني قبل صدور قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته. وأضاف أن القوانين السابقة، مثل القانون رقم 14 لسنة 1912، كانت تسمح بتجارة الآثار بشروط محددة.
ونصت المادة الرابعة من القانون رقم 14 لسنة 1912 على أنه “يجوز الإتجار بالآثار التي تؤول إلى المكتشف بناء على المادة الحادية عشرة من هذا القانون أو على شروط رخصة بالحفر بناء على المادة الثانية عشرة، ويجوز الإتجار أيضًا بالآثار الخاصة بمجموعات اقتناها بعض الأفراد بسلامة نية”.
المادة 13 من القانون نفسه نصت على أن “كل متاجر بالآثار يجب أن يكون بيده رخصة اتجار، ولمصلحة الآثار وحدها الخيار في إعطائها أو رفضها. وعلى ناظر الأشغال العمومية تقرير شروطها لا سيما فيما يتعلق بكيفية تقرير ما إذا كانت الآثار المعروضة للبيع مما يجوز الإتجار به أم لا”.
كما أشارت المادة 14 إلى أنه “يمنع إخراج الآثار من القطر المصري إلى البلاد الأخرى ما لم يكن ذلك برخصة خصوصية يكون لمصلحة الآثار التاريخية وحدها إعطاؤها أو رفضها. على أن كل أثر يحاول بعض الناس إخراجه من القطر بدون رخصة يُحجز ويُصادر لصالح الحكومة”.
وأكد ريحان أن هذه القوانين كانت تسمح بخروج الآثار ضمن إطار قانوني قبل تحديث التشريعات لحماية التراث المصري.
وتابع أن القانون 215 لسنة 1951 أجاز الإتجار في الآثار ولكن بشروط، حيث تشترط المادة 24 أنه “لا يجوز الاتجار في الآثار إلا بترخيص من وزارة المعارف العمومية، ويصدر بتنظيم هذا الاتجار قرار من وزير المعارف العمومية”، كما نصت المادة 26 من القانون نفسه على أنه “لا يجوز تصدير الآثار إلى الخارج إلا بترخيص من وزير المعارف العمومية بعد موافقة المصلحة المختصة”.
وبهذا فقد أجاز هذا القانون تجارة الآثار بترخيص من وزارة المعارف العمومية، وقد تم إلغاؤه بقانون حماية الآثار عام 1983. لذا فإن “دار بونهامز” يجب عليها تقديم مستندات للحكومة المصرية تثبت خروج المشكاة بشكل شرعي، حيث أن معظم ما يباع في هذه المزادات يتم بأوراق مزورة لإيجاد صيغة ملكية غير قانونية حديثة لتبرير البيع.
ريحان أوضح أن المشكاة خرجت في عهد الدولة العثمانية، التي كانت مصر فيها ولاية عثمانية ليس لها ولاية على آثارها، علاوة على ظروف الاستعمار الفرنسي والبريطاني، مستدلاً بخروج حجر رشيد في ذات فترة الحكم العثماني لمصر.
عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة أوضح أن “اتفاقية اليونسكو 1970” التي وقعت عليها 123 دولة، من بينها مصر، هي الاتفاقية الخاصة بمكافحة الاتجار غير المشروع بالتحف الفنية والمنظمة لآلية عودة القطع الفنية التي تم الحصول عليها بشكل غير شرعي إلى بلادها الأصلية. وتنص هذه الاتفاقية على موافقة ضمنية من الدول الموقعة بعدم المطالبة بعودة الآثار المنهوبة قبل عام 1970، ويحتمل أن تكون المشكاة من ضمن هذه القطع إذا خرجت بالفعل قبل قانون حماية الآثار عام 1983.
وأضاف أن الاتفاقية تنص على تقديم دليل على ملكية الآثار التي نهبت بعد عام 1970. أما الآثار التي خرجت من مصر، خاصة بعد عام 2011 في سنين الفوضى، فهي نتيجة أعمال حفر خلسة، وبالتالي فهي غير مسجلة وليس لها سند ملكية. لذا تحرمنا الاتفاقية من المطالبة بعودة هذه الآثار رغم أنها آثار مصرية مهربة.
وأكد أن مصر تلجأ إلى الاتفاقيات الثنائية التي تعقدها مع الدول لتجنب هذا البند المجحف. وتشمل هذه الاتفاقيات خمس اتفاقيات مع سويسرا، وقبرص، وإيطاليا، وكوبا، وبيرو، وكينيا لمكافحة تهريب الآثار والاتجار في القطع المسروقة، بعيدًا عن اتفاقية اليونسكو.
وطالب ريحان، بصفته رئيساً لحملة الدفاع عن الحضارة المصرية، الدول العربية الموقعة على الاتفاقية وعددها 15 دولة، وهي الكويت، ليبيا، العراق، مصر، الأردن، الجزائر، سوريا، تونس، السعودية، قطر، موريتانيا، عمان، لبنان، المغرب، وفلسطين، بالاتفاق على تعديل بنود الاتفاقية والتقدم بها إلى اليونسكو، واستخدام كل وسائل الضغط المتاحة لتعديل البنود المجحفة بما يضمن عودة الآثار التي خرجت بشكل غير شرعي.
ريحان أوضح أيضاً أن مصر غير مقصرة في ملف عودة الآثار المهربة، وتُعتبر نموذجاً يحتذى به بين الدول العربية والأجنبية في استرداد الآثار. وقد نجحت مصر منذ تولي الرئيس السيسي الحكم في استعادة 29 ألف قطعة أثرية.
اقرأ أيضًا:
استرداد الآثار المصرية من الخارج: حملات شعبية وجهود أكاديمية
مشروع حديقة تلال الفسطاط.. هل ينجح في تعويض المواطن والمناخ؟!
هل صفقة الاستحواذ على “رأس الحكمة” تجعلها إمارة خليجية؟
نهر النيل بين الاستثمار والتعديات.. من يحمي شريان الحياة في مصر؟ | تحقيق