هل تنجب الصحافة محمد حسنين هيكل جديد؟ سؤال يطرق بابه ويكاد لا يغيب كل عام مع اقتراب عيد ميلاد “الأستاذ”، إلا أن جوابه يعبر عن حال الصحافة المصرية خلال هذه الحقبة، فمرض الصحافة وقمع الحريات جعل وجود هيكل جديد ربما فكرة صعبة، ليس لفقر مواهب الصحافيين أو قلة مهاراتهم، ولكن لظروف صنعتها السلطة، إذ لم يعد هناك الصحافي القريب من الرئاسة والمؤسسات العميقة ليشير بكل حرية إصبعه نحو المشكلات واحتياجات المواطن دون خوف أو تردد.
يختلف أو يتفق الناس حول هيكل، لكن في النهاية هناك اعتراف بقيمته الرمزية وأهميته في تاريخ الصحافة، فهو الرجل الذي كان مقاله الأسبوعي “بصراحة” قادرًا على هز العالم العربي من المحيط إلى الخليج بين مؤيديه ورافضيه.
اجتمع عدد كبير على حب هيكل وتجبيله وإنزاله منزلة التقديس والعصمة.
خارج المقارنة
” قولاً واحدًا هيكل لا يقارن بأي أحد آخر”، هكذا وصف نقيب الصحفيين الأسبق يحيى قلاش، الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، مشيرا إلى أن “الأستاذ” لا يمكن تصنيفه، فهو “جورنالجي استثنائي” في تاريخ الصحافة العربية والمصرية.
ويضيف “قلاش” أن هيكل أيقونة صحافية ورمز كبير بتركيبته وعلاقاته وثقافته ودأبه الذي جعل منه مؤسسة صحفية عملاقة، مؤكدا أنه النسخة الأكثر انفرادًا من الصحفي الأفضل والأقوى في تاريخ مصر الحديث.
ويشير “قلاش” في حديثه لمنصة “MENA” إلى أنه يمكن الاختلاف مع هيكل في رؤاه السياسية وتوجهاته، لكن لا يمكن الاختلاف معه في مسيرته الصحافية.
صورة هيكل
واعتبر قلاش أن من يشكك في صورة هيكل الصحافي لديه مشكلة كبيرة، مؤكداً أنه ولمدة كبيرة جدًا سننتظر أن يأتي الزمان بمثيل لهيكل، وهو أمر صعب ويحتاج وقتًا طويلاً، لأن هيكل كان ابنا لزمانه وجيله ومجتمعه، الذي كان يهتم بالأحداث الكبرى ويتصدر المشهد.
هيكل والسلطة
نقيب الصحفيين الأسبق يقول إنه من الطبيعي أن يكون هيكل قريبًا من رموز كبيرة في السلطة سابقًا، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، وهذا ليس لسبب عابر، لكن لمكانة هيكل وقدراته الكبيرة، لأن علاقته بنيت مع جمال عبدالناصر بروابط صحفية، مثلما كان جمال عبد الناصر مع الأخوين مصطفى وعلي أمين، وأيضاً نقيب الصحفيين الأسبق حسين فهمي، وهو ما يعني أن جمال عبد الناصر قبل الثورة كانت له علاقات كثيرة مع الصحفيين، وأن صداقته مع ناصر كانت عادية، وعلاقة الصحفيين بالرؤساء حول العالم عادية ومتكررة، بخلاف هيكل وحسب، النموذج الفريد في العالم.
هيكل والرؤساء
ويتابع: تبقى علاقة الأستاذ هيكل بناصر علاقة خاصة وفريدة من نوعها، لذلك استمرت من فجر الثورة، وإلى أن رحل جمال عبد الناصر، ثم علاقته بالسادات بعد وفاة جمال عبد الناصر، والتي ظلت لمدة معينة ولم تدم طويلاً، ولكن استمرت علاقته الاستشارية من قبل السادات ومن بعده مبارك والرئيس السيسي، فهي علاقة الرجل ذو المكانة والتاريخ، الذي يمكن أن يُؤخذ برأيه ويسمع به في المشهد السياسي وبعض الأحداث.
خصوصية هيكل لدى عبد الناصر
وينفي قلاش ما يقال حول أن جمال عبد الناصر كان رجل هيكل أو العكس، بينما يؤكد أن ناصر كان هو من يضع الإطار ويحدد الفكر، وما كان هيكل إلا مصيغ لذلك الفكر، ولا يبتكر شيئًا من عنده، وظل ذلك كثيرًا، في العديد من الخطابات والبيانات، وأيضاً في خطاب التنحي التاريخي، وكذلك في بيان حرب أكتوبر، الذي صاغه للسادات، وهي أمور عادية، أكدها نقيب الصحفيين الأسبق حسين فهمي، الذي سبقت علاقته بعبد الناصر علاقة هيكل بسنوات طويلة جدًا.
العمل لا الصدفة
يقول محمد سعد عبد الحفيظ وكيل نقابة الصحفيين المصريين، إن حسين فهمي نقيب الصحفيين الأسبق، سأل جمال عبد الناصر مسبقًا عن سبب اختصاص هيكل فقط بالأخبار، فأجاب بأن هذا غير صحيح، وأن هيكل هو الذي يخصه بالأخبار، ويتابع ما يجري في كواليس المؤتمر وينقل له توجهات الوفود المشاركة وما ينوي كل وفد أن يطرحه ويقترح صيغا تمكننا من تجاوز المطبات الدبلوماسية.
ويضيف “عبد الحفيظ” خلال تصريحات خاصة لمنصة “MENA“، أن هيكل معروف عنه بأنه كان جادا أكثر من اللازم بينما كان غيره يستمتع بالأجواء الساحرة في الجزيرة الإندونيسية، إضافةً إلى دقته وانضباطه وفهمه للتطور الذي حدث لشخصية وفكر عبد الناصر، وهو ما لم يفعله أصدقاؤه الأقدمون من الصحفيين، مثل إحسان عبد القدوس وأحمد أبو الفتح وفكري أباظة، وأيضًا حسين فهمي الذي عرف عنه إضافة إلى موهبته الصحفية الفذة، ولعه بالسهر والاستمتاع بملذات الحياة.
المدني الوحيد في يوليو
ويواصل: اقتراب هيكل من عبد الناصر وضباط يوليو لم يكن وليد الصدفة، ولم يكن وجوده ليلة 23 يوليو عام 1952 في مقر هيئة أركان حرب الجيش، والذي أصبح مقرا لحركة الضباط الشبان الذين استولوا على السلطة، مجرد صدفة، فالصحفي أو بالأحرى المدني الوحيد الذي كان حاضرا في مقر القيادة وأدار المفاوضات بين “الحركة”، وحكومة نجيب باشا الهلالي عبر هاتف القيادة، والتي انتهت بإعلان الوزارة استقالتها كان “هيكل”، في الوقت الذي توطدت علاقته بالبكباشي جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر واللواء محمد نجيب، عبر لقاءات متعددة سبقت هذا اليوم، وجعلته يقترب أكثر فأكثر بعد غياب شمس الملكية عن مصر وذهاب الملك فاروق إلى غير رجعة.
ويشير وكيل نقابة الصحفيين، إلى إن ثنائية هيكل وعبد الناصر أثارت الكثير من الجدل، البعض وصفها بأنها علاقة “تابع بمتبوع”، والبعض الآخر اعتقد ربما عن جهل وتبسط، أن عبد الناصر كان رجل هيكل، على حد وصف الرئيس الأسبق حسني مبارك في لقاء جمعه بالأستاذ عقب خروج الأخير من المعتقل بعد اغتيال السادات، “كنت أعتقد طوال الوقت من كلام أنور السادات أنك رجل جمال عبد الناصر، حتى أخبرني أنيس منصور أن عبدالناصر كان رجلك”، لكن هيكل رد بأنه يرجو من سيادة الرئيس، ألا يسمح لأحد في حضوره بأن يتحدث عن عبد الناصر بهذه الطريقة.
فيما يقول الصحفي المصري حافظ الميرازي، إن عقدة هيكل التي أفسدت الصحافة العربية، كانت في القرب من الحاكم، وهو ما يجعله مستشارًا لا صحفيًا، ولا يمكن لأي منصف التقليل من مكانة وثقافة وفكر محمد حسنين هيكل الذي سيبقى علامة في تاريخنا المعاصر.
ويضيف الميرازي عبر حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: لكن مشكلة نموذج هيكل، خصوصًا حين تجد حتى بعض الشباب الصغار الذين ربما لم يبلغوا سن الرشد في عهد هيكل أو قرأ له كتابًا كاملاّ، يعتبر أن حلم حياته كصحافي أن يصبح مثل “الأستاذ”.
ويواصل: الأستاذ هيكل، تعلم في العهد الملكي الليبرالي، شأنه شأن ناصر والسادات، اقترب في بداية شبابه من الديوان الملكي كصحافي، ثم دنا من الضباط الأحرار، حتى قبيل انقلابهم العسكري، وأصبح مستشار قائدهم ولسان حاله، لدرجة لا تعرف إن كانت “فلسفة الثورة” بقلم عبد الناصر فعلا أم هيكل؟
ويؤكد” الميرازي” أن هيكل من خلال كونه مستشارًا لناصر ومنخرطاً في العمل السياسي بما فيها وزير الإرشاد، خلافاً لأي معايير مهنية صحافية، وبغض النظر عن الألقاب الرسمية ورئاسة التحرير، أقام هيكل علاقاته مع زعماء العالم ووضع يده على كل وثائق الدولة السرية والرسمية، واستخدم بعضها كسلاح الأرشيف ضد السادات، حين أبعده الأخير عن المكانة المحظية، بعد مساعدته السادات في التخلص من الناصريين في مراكز القوى، وأصبح بالتالي معيار الصحافي الأول هو الأقرب للحاكم.
ويوضح “الميرازي” أن جزءا كبيرا من أرشيف أو سلاح هيكل مع خصومه، تم إحراقه كوثائق بمنزله الريفي في برقاش، في نفس يوم رابعة والنهضة، وظل لديه أمل في الاستماع إلى استشاراته والبقاء قرب الحاكم الجديد الذي روج له هيكل باعتباره “مرشح الضرورة”، لكنه لم يدرك أن مستوى التعليم في مصر بعد يوليو 52 مختلف عن التعليم الملكي للضباط الأحرار الذين صاحبهم وقتها.
اقرأ أيضًا:
محطات في حياة رئيس المخابرات العامة الأسبق محمد التهامي
في ذكراها ال 72 .. هل نصرت ثورة الضباط الأحرار فقراء المصريين؟
وثائق أكتوبر بين رمزية الحدث ودلالة التوقيت
يحيي حسين عبدالهادي.. مؤسس الحركة المدنية الديمقراطية الضيف الدائم على السجون.. ما القصة؟