اقتصاد

العقلية الأمنية في حل الأزمات الاقتصادية في مصر


استَهَلَ السيسي فترته الرئاسية الثالثة، في وقتٍ تَعصفُ بمصر مجموعة من الأزمات الداخلية والخارجية، على الصعيد الإقليمي لا تزال الحرب في غزة قائمة مما أدى لتكدس ملايين اللاجئين برفح الفلسطينية، والوضع في السودان يزداد تعقيدًا، بالإضافة لفشل المفاوضات مع أثيوبيا بشأن سد النهضة مما يهدد الأمن المائي للبلاد.


تزامنًا مع كل هذه التحديات، تزداد وتيرة الأزمات الداخلية بشكلٍ سريع، حيث زيادة الأسعار وندرة بعض السلع الغذائية الأساسية، وانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار بشكلٍ غير مسبوق، مما يتسبب في خلق حالة من الاحتقان في أوساط الشارع المصري، لتجد الحكومة نفسها مطالبة بحل حزمة من المشاكل والأزمات بشكلٍ سريع وفعّال قبل تفاقم الأوضاع.


في الوقت الذي يجب على الحكومة المصرية السعي من أجل بناء تواصل حقيقي وفعّال مع كل صُناع القرار وفئات المجتمع بكافة مكوناته، من أجل الخروج من هذه الأزمات بأساليب إدارية مناسبة وفق منهجية عملية، فإنها لا ترى الحل إلا في المزيد من إحكام القبضة الأمنية.


الحل الأمني يزيد من تعقيد الأزمة


“التعامل الأمني يزيد من تعقيد الأزمة ولا يوفر حلها” هكذا لخص وزير التموين منهجية تعامل الحكومة مع الأزمات، فبدلًا من تقديم حلول عملية، فإنها تتسبب في تفاقم الأزمات وتعقيدها.


شهدت مصر نهاية عام 2023، ارتفاع غير مسبوق في أسعار السكر مع قلة الكميات المتوفرة، مما دفع الحكومة متمثلة في مباحث التموين للتدخل لحل المشكلة، فشنت حملات أمنية موسعة على المخازن من أجل ضبط أي كميات مُخزنة، والتشديد في عمليات التفتيش على المحلات التِجارية، مما دفع قُرابة 75% من مصانع التعبئة والتغليف على التوقف عن عملهم خوفًا من حملات التفتيش، كما قررت العديد من المحلات التجارية وصِغار الموزعين التوقف عن عملية البيع خوفًا من الملاحقة الأمنية، مما دفع وزير التموين علي المصيلحي للخروج في إحدى اللقاءات التلفزيونية مطالبًا وزارة الداخلية ومباحث التموين بإرخاء القبضة الأمنية لعدم تنفير العاملين بالقطاع، موضحًا أن التعامل مع مثل هذه الأزمات بمنظور أمني يزيد من تعقيدها.


رغم إدراك الحكومة مؤخرًا واعتراف وزير التموين أن الحلول الأمنية مع مثل هذه الأزمات يأتي بنتائج عكسية، فإنها انتهجت نفس الطريقة في التعامل مع أزمة البصل، حيث ارتفع سعره بشكلٍ كبير ليصل لـ 40 جنيهًا للكيلو، نتيجة قلة المعروض بسبب تراجع الإنتاج وارتفاع الكميات المُصدرة للأسواق الخارجية، حيث جاءت مصر في المرتبة السادسة عالميًا ضمن أكثر الدول المصدرة للبصل، مما أثر بشكلٍ كبير على السوق المحلي.


وبدلًا من أن تسعى الحكومة بناءً على دراسات وأبحاث علمية، بتحديد الاحتياج الحقيقي من المحصول، سواء للسوق المحلي أو للتصدير، سارعت بإصدار قرارًا بحظر تصدير البصل بجميع أنواعه، بالإضافة لشن حملات أمنية موسعة على مخازن البصل، وضبط كميات كبيرة مخزنة لدى التجار وتحرير العديد من المحاضر بحق المخالفين، الأمر الذي تسبب بخلق حالة من الخوف والفزع لدى الكثير من التجار، وتعقيد الأزمة بدلًا من حلها.


بنفس المنهجية وطريقة التفكير واللجوء للحلول الأمنية السريعة التي غالبًا ما تأتي بنتائج عكسية على حياة المواطن، تعاملت الحكومة مع أزمة الدواجن، والتي تعتبر السلعة الغذائية التي يلجأ لها المصريون بدلًا من اللحمة التي لم تصبح أسعارها في متناول الطبقة المتوسطة فضلًا عن الفقيرة.


تجاوزت أسعار الدواجن 100 جنيه للكيلو، في ارتفاع قياسيّ غير مسبوق، لتلحق ببقية السلع التي تمثل الاحتياجات الأساسية في حياة المصريين اليومية، هذه المرة ليست الأزمة الاقتصادية وحدها أساس المشكلة، بل المنهجية  الأمنية في التعامل مع قطاع الدواجن على مدار الشهور الماضية.


حسب الإحصائيات، فإن قطاع الدواجن الذي كان يضم قرابة 4 ملايين و500 ألف عامل قبل عامين، حاليًا يعمل به قرابة 2 مليون عامل فقط، ما يعني أنه فقد أكثر من نصف القوة العاملة به تقريبًا، وبالتالي انخفاض القدرة الإنتاجية من نحو 4 ملايين دجاجة يوميًا، لقرابة مليون و700 ألف دجاجة فقط.


تقلص عدد العاملين بالقطاع نتيجة الضغوطات التي يتعرضون لها، والحملات الأمنية المستمرة على السوق، مما تسبب في نشر الخوف والذعر في أوساط العاملين خاصة المخالفين منهم، ومؤخرًا منعت الحكومة التجار من بيع الدواجن بشكلٍ مؤقت بهدف خفض الأسعار، الأمر الذي يوفر حلًا مؤقتًا للأزمة دون حلها بشكلٍ جذريّ، مما يجعل عواقبها مستقبلًا أكبر وأسوأ من الوضع الحالي.


الحلول الأمنية للمشكلات الاجتماعية


تأتي الأزمات الاجتماعية التي تعصف بحياة المصريين في نفس المرتبة مع الأزمات الاقتصادية، وعلى رأسها أزمة البناء بدون تراخيص، وحملات الإزالة المستمرة على مدار السنوات الماضية، حيث يواجه آلاف المصريين خطر إزالة منازلهم، أو اللجوء للتصالح مع الدولة ودفع مبالغ باهظة، الأمر الذي دفع الكثير منهم لعدم ترك المنازل، والخروج في حشود غاضبة للتصدي لحملات الإزالة بالحجارة مدافعين عن منازلهم، المشهد الذي تكرر في مناطق متفرقة، مما صنع حالة من الاحتقان في أوساط الشارع، وتناولته السوشيال ميديا من خلال فيديوهات توثق هذه الحالة.


حالة الممانعة من المواطنين وعدم تركهم لمنازلهم، وفشل تنفيذ حملات الإزالة في بعض الأحيان، دفعت السيسي على حث المسؤولين المحليين وقادة الأمن علانية على ترك مناصبهم إذا لم يكونوا قادرين على أداء مهمتهم، واستعداده لنشر الجيش في القرى لإبادة المنازل المخالفة.


يبدو أن الأزمة التي تسعى الحكومة لحلها على مدار السنوات الماضية لم تجد طريقها للحل حتى الآن، بل تتفاقم لتصل ذروتها مع بداية 2024، حيث عمت حالة من الغضب على السوشيال الميديا نتيجة مصرع المواطن عبد الفتاح الشبراوي الذي رفض ترك منزله فهدم فوق رأسه، خلال حملات الإزالة التي طالت منطقة الجميل بمحافظة بورسعيد من قبل قوات الشرطة.


هذه الأزمات وغيرها على مدار 10 سنوات لم تعرف طريقها للحل، بل تزداد معاناة الشعب بمرور الأيام، فمتى تدرك الحكومة المصرية أن الفكر الأمني لا يفيد في حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إنما يزيدها تعقيدًا، ويخلق حالة من الاحتقان في أوساط الشارع المصري تجعله على حافة الانفجار، ومتى تسعى بشكلٍ جاد لإيجاد حلول جذرية لهذه الأزمات بناء على دراسات وأبحاث علمية، والاستعانة بالمتخصصين وأصحاب الخبرات، مجموعة من الأسئلة لا يمتلك إجابتها سوى الحكومة وفقط، والتي من الواضح أنها لا تفضل غير التعامل الأمني وقمع الأصوات!

شارك المقالة

مقالات مشابه

الاقتصاد المصري والسير نحو الهاوية

تعيش مصر أزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ سنوات، يزيد من صعوبتها التوترات الجيوسياسية في المنطقة، إلى جانب شح الدولار بسبب تراجع تحويلات

أزمة نقص الأدوية المستوردة في السوق المصري

مقدمة أصدرت وزارة الصحة المصرية في الخامس من فبراير 2024 القرار رقم 44 لسنة 2024؛ الخاص بإلزام الأطباء في جميع القطاعات الصحية في الدولة

العقلية الأمنية في حل الأزمات الاقتصادية في مصر

استَهَلَ السيسي فترته الرئاسية الثالثة، في وقتٍ تَعصفُ بمصر مجموعة من الأزمات الداخلية والخارجية، على الصعيد الإقليمي لا تزال الحرب في